قصيدة البارودي في المنفى

كتب البارودي في منفاه العديد من القصائد التي عبّر فيها عن حياته والمشاعر التي كان يعيشها في المنفى، وفي هذا المقال اختيرت قصيدة "سرنديب" لشرحها وتوضيح معانيها، وهي تحمل اسم الجزيرة التي نُفي إليها البارودي، وقبل البدء بشرح القصيدة لا بدّ من التعريف بناظمها، وهو الشاعر المصري من أصول شركسية محمود سامي البارودي، الذي يعدّ واحدًا من روّاد الشعر العربي الحديث؛ فقد سعى إلى التجديد في شكل القصيدة وفي مضمونها، وهو من مواليد السادس من تشرين الأول من عام 1839م، نشأ بين أحضان أسرة ثرية اعتنت به وبتعليمه، وقد ظهر اهتمامه بالشعر والأدب في سنّ صغيرة، فسعى إلى التطوير من نفسه وزيادة ثقافته، وإلى جانب ذلك كان لديه اهتمام كبير بشؤون البلاد العسكرية.[١]


شرح قصيدة محمود سامي البارودي في المنفى

تقع قصيدة "سرنديب" للبارودي في (51) بيتًا، تحدّث فيها عن معاناته في غربته وبُعده عن وطنه وعن أهله بعدما تمّ نفيه إلى سرنديب إثر مشاركته في الحركة الوطنية ضدّ الإنجليز في مصر، فبثّ فيها مشاعره وأحاسيسه الحزينة، وقد تم تقسيم القصيدة إلى عدّة مقاطع فيما يأتي شرح موجز لبعضها:


شرح المقطع الأول


أَسَلَّةُ سَيْفٍ أَمْ عَقِيقَةُ بَارِقِ أَضَاءَتْ لَنَا وَهْنَاً سَمَاوَةَ بَارِقِ لَوَى الرَّكْبُ أَعْنَاقَاً إِلَيْهَا خَوَاضِعَاً بِزَفْرَةِ مَحْزُونٍ وَنَظْرَةِ وَامِقِ وَفِي حَرَكَاتِ الْبَرقِ لِلشَّوْقِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَا جَنَّهُ كُلُّ عَاشِقِ تَفُضُّ جُفُوناً عَنْ دُمُوعٍ سَوَائِلٍ وَتَفْرِي صُدُورَاً عَنْ قُلُوبٍ خَوَافِقِ وَكَيْفَ يَعِي سِرَّ الْهَوَى غَيْرُ أَهْلِهِ وَيَعْرِفُ مَعْنَى الشَّوْقِ مَنْ لَمْ يُفَارِقِ لَعَمْرُ الْهَوَى إِنِّي لَدُنْ شَفَّنِي النَّوَى لَفِي وَلَهٍ مِنْ سَوْرَةِ الْوَجْدِ مَاحِقِ



يعبّر البارودي في المقطع الأول من القصيدة عن ذكرياته في وطنه مستحضرًا إياها في معالم الطبيعة، فيفتتحها بالاستفهام والسؤال عن هذا الوهج والشعاع البادي أمامه هل هو من السيف أم من شعاع البرق، وهذا الشعاع يُثير في نفسه الشوق والحزن والاشتياق، فينظر إليه نظرة العاشق الحزين؛ فهو يذكّره بأيامه وحياته في وطنه بعد أن بات الآن منفيًا وحيدًا، ويُشير الشاعر إلى أنّ تلك المشاعر التي تنتابه لن يفهمها إلا من عاش حالته نفسها، ومن المفردات التي تحتاج إلى توضيح ما يأتي:

  • سلّة: مصدر مرة من الفعل سلّ، ومعناه انتزع السيف وأخرجه من غِمده.
  • عقيقة بارق: ما يبقى في السحاب من شعاع البرق.
  • وهنًا: في نصف الليل.
  • سماوة: سماء.
  • بارق: اسم مكان قريب من الكوفة في العراق، ووهنا قصد به الشاعر موطنه مصر.
  • زفرة: نَفَسٌ يخرج ويُصاحبه أنين وآهات.
  • وامق: عاشق.
  • النوى: البُعد.
  • وله: عِشق.
  • سَورَة الوجد: شدّته.
  • ماحق: الماحي.


شرح المقطع الثاني


كَفَى بِمُقَامِي فِي سَرَنْدِيبَ غُرْبَةً نَزَعْتُ بِهَا عَنِّي ثِيَابَ الْعَلائِقِ وَمَنْ رَامَ نَيْلَ الْعِزِّ فَلْيَصْطَبِرْ عَلَى لِقَاءِ الْمَنَايَا وَاقْتِحَامِ الْمَضَايِقِ فَإِنْ تَكُنِ الأَيَّامُ رَنَّقْنَ مَشْرَبِي وَثَلَّمْنَ حَدِّي بِالْخُطُوبِ الطَّوَارِقِ فَمَا غَيَّرَتْنِي مِحْنَةٌ عَنْ خَلِيقَتِي وَلا حَوَّلَتْنِي خُدْعَةٌ عَنْ طَرَائِقِي وَلَكِنَّنِي بَاقٍ عَلَى مَا يَسُرُّنِي وَيُغْضِبُ أَعْدَائِي وَيُرْضِي أَصَادِقي فَحَسْرَةُ بُعْدِي عَنْ حَبِيبٍ مُصَادِقٍ كَفَرْحَةِ بُعْدِي عَنْ عَدُوٍّ مُمَاذِقِ فَتِلْكَ بِهَذِي وَالنَّجَاةُ غَنِيمَةٌ مِنَ النَّاسِ وَالدُّنْيَا مَكِيدَةُ حَاذِقِ



يعبّر الشاعر في هذا المقطع عن ضجره من طول المكوث والإقامة في غربته في سرنديب، لأنّها قطعته عن أهله وصحبه وعلاقاته، لكنّه يحاول في الوقت ذاته مواساة نفسه بقوله إنّ من رغب بالوصول إلى العزة والشرف فعليه تحمّل المصائب والصبر عليها، فحتى إن قست الأيام عليه وعكّرت صفو حياته وأدّت إلى ضعفه، إلا أنّها لم تُغيّر طبعه الأصيل ولا مبادئه، وهو مُصرّ على البقاء والثبات على مبدئه وموقفه الشريف، والوقوف في وجه الأعداء وإغضابهم، وإرضاء أحبائه.


بعد ذلك يُشير الشاعر إلى أنّ الحسرة والألم من فراق أهله ووطنه وأحبائه تقابلها فرحة في البُعد عن أعدائه وعن الأعداء المنافقين وغير المُخلصين، وهذه تُعادل تلك، ففي بعض الأحيان يكون البُعد عن الناس غنيمة وفيه النجاة، والشخص الماهر الذكي هو من يستطيع أن يُسيّر الدنيا لصالحه، ومن المفردات التي تحتاج إلى توضيح ما يأتي:

  • مقامي: بقائي.
  • العلائق: العلاقات والروابط الاجتماعية.
  • رام: أراد.
  • المنايا: الموت.
  • المضايق: ما ضاق واشتدّ من الأمور.
  • رنّقن: عكّرنََ.
  • ثلّمن: كسّرن.
  • الخطوب: جمع خَطب، وهو الأمر العظيم.
  • مماذق: غير المُخلص.
  • حاذق: ماهر وذكي.


شرح المقطع الثالث


أَلا أَيُّهَا الزَّارِي عَلَيَّ بِجَهْلِهِ وَلَمْ يَدْرِ أَنِّي دُرَّةٌ فِي الْمَفَارِقِ تَعَزَّ عَنِ الْعَلْيَاءِ بِاللُّؤْمِ وَاعْتَزِلْ فَإِنَّ الْعُلا لَيْسَتْ بِلَغْوِ الْمَنَاطِقِ فَمَا أَنَا مِمَّنْ تَقْبَلُ الضَّيْمَ نَفْسُهُ وَيَرْضَى بِمَا يَرْضَى بِهِ كُلُّ مَائِقِ



يوجّه الشاعر في هذا المقطع خطابه إلى الأشخاص الذين لاموه وعابوا عليه فعلته التي أدت إلى نفيه -وهي مشاركته في الحركات الوطنية-، ويصفهم بالجهلة بمكانته، فهم لم يُقدّروه كما يجب ولم يعرفوا أنه كاللؤلؤوة المضيئة في جبين الأمة والوطن لأنه انبرى للدفاع عنه، ويُخبر اللائمين أنّ الحديث عنه لن يوصلهم إلى العلياء، ويطلب منهم أن يكفّوا عن ذلك فالعلياء لا تُنال بالكلام الذي لا فائدة منه، ويختتم الشاعر المقطع بالفخر بنفسه، فهو يأبى الذل والخنوع، ويرفض كلّ ما يقبله الشخص الأحمق الغبي، ومن المفردات التي تحتاج إلى توضيح ما يأتي:

  • الزاري: اللائم والعائب.
  • درّة: اللؤلؤة المضيئة.
  • مفارق: موضع انفراق الشَّعْر.
  • اللغو: الكلام الذي لا فائدة منه.
  • الضيم: الظلم والذل.
  • مائق: أحمق وغبي.


السمات الفنية في قصيدة البارودي في المنفى

اتسمت قصيدة سرنديب التي نظمها محمود سامي البارودي في المنفى بمجموعة من الخصائص والسمات الفنية، منها الآتي ذكره:

  • بروز عاطفة الحزن في هذه القصيدة.
  • بثّ الحكمة في الكثير من أبيات القصيدة بطريقة مباشرة وغير مباشرة.
  • توظيف العديد من المحسنات البديعية التي تزيد من جمالية النص ومعناه.
  • البُعد عن غريب الألفاظ، وتوظيف مفردات ملائمة للغرض العام من القصيدة.
  • الولوج المباشر إلى المقصود من نظم القصيدة.

المراجع

  1. أحمد خالد، محمود سامي البارودي دراسة تاريخية، صفحة 9. بتصرّف.