قصيدة ودّع هريرة

إنّ القصيدة الشهيرة التي يُطلق عليها قصيدة "ودّع هريرة" نسبةً إلى مطلعها ويعدّها العرب إحدى معلقات الشعر الجاهلي تعود إلى الشاعر الجاهلي الأعشى الكبير، وهو يُكنّى بأبي بصير واسمه ميمون بن قيس بن جندل بن شرحبيل بن ربيعة بن نزار، وينتسب إلى قبيلة بكر بن وائل الكبيرة، لم ترد عن نشأته وظروف حياته أخبار كثيرة وواضحة، لكن أُشير إلى أنه كان كثير الأسفار والتنقل يمدح الأشراف والسادة، وقد عُرِف عنه جودة شعره في مختلف الأغراض الشعرية، ورقيّ مستواه الفني وتغنّيه به، حتّى عُدّ واحدًا من فحول الشعر الجاهلي وأعلامهم وأُطلق عليه لقب صنّاجة العرب.[١][٢]


شرح قصيدة ودّع هريرة

نظم الأعشى معلّقته هذه التي يقول في مطلعها "ودّع هريرة إنّ الركب مرتحلُ" على البحر البسيط، وهي تقع في 66 بيتًا، غرضها الأساسي هجاء يزيد بن شيبان وتهديده بالثأر، وافتخار الشاعر بقبيلته وقومه في الحرب وتفوقهم عليه، وقد تمّ تقسيمها إلى عدة مقاطع لتسهيل شرحها، وفيما يأتي شرح موجز لبعض هذه المقاطع:[٣]


شرح الأبيات (1-4)

يفتتح الأعشى قصيدته بمقدمة غزليّة على عادة الشعراء الجاهليين، فيودّع محبوبته التي اسمها "هُريرة" ومشاعر الحزن والضعف تُسيطر عليه، فقد تهيأ الركب للرحيل ولم يعد هناك مفرّ من الوداع، وفي هذه اللحظات يُسيطر عليه خيال المحبوبة ويتجلّى أمام عينيه.[٤]


ويبدأ الشاعر في تصوير محبوبته بنبرة متحسّرة؛ فهي بيضاء حسنة الوجه، شعرها كثيف وطويل، وأسنانها بيضاء مصقولة، وهي تمشي مشية رزينة متمهلة يُهيأ لمن يراها أنها تمشي في أرض مليئة بالأوحال فلا تقوى على المشي سريعًا، وكأنها سحابة تمر في الفضاء، وفي أثناء مشيتها تلك تصدر أصوات الحلي في معصميها وساقيها وكأنّه حبّ نبات العِشرق قد حرّكته الرياح، وفيما يأتي الأبيات التي تمثل ذلك:[٤]


وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها مَرُّ السَحابَةِ لا رَيثٌ وَلا عَجَلُ تَسمَعُ لِلحَليِ وَسواساً إِذا اِنصَرَفَت كَما اِستَعانَ بِريحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ



شرح الأبيات (5-13)

يُشير الشاعر إلى أنّه ليس وحده من وقع في حبّ هُريرة، بل كانت تلفت نظر كلّ من يراها فيقع في حبها، وخُلقها السمح يقربها من ملّ مَن يُجاورها، كما أنها تتمتع بالكثير من الصفات الحميدة؛ فهي لم تؤذِ أحدًا، ولا تتدخل فيما لا يعنيها، ولا تسترق السمع إلى أسرار الناس، لكنها في المقابل غير مُعتادة على الكدّ والاهتمام بشؤون المنزل كبقية النساء، وعندما تقوم إلى جارتها تتحامل على نفسها وتشعر بالوهن والكسل، فيهتزّ جسمها الناعم وتضطرب أردافها الضخمة، ويجفو وشاحها عن خصرها.[٤]


بعد ذلك ينطلق الشاعر في خياله واصفًا مواضع الفتنة والإغراء التي تمتلكها محبوبته وكأنّها تمعّن بها وفحصها بنظرات دقيقة، فمرفقاها صغيران اختفت عظامهما في ساعديها الممتلئين، وقدماها صغيرتان جفا باطنهما عن الأرض، ورائحتها عبقة مخلوطة بالمسك والياسمين تمتلئ بها طريقها حين تسير، وفيما يأتي الأبيات الشاهدة على ذلك:[٤]


لَيسَت كَمَن يَكرَهُ الجيرانُ طَلعَتَها وَلا تَراها لِسِرِّ الجارِ تَختَتِلُ يَكادُ يَصرَعُها لَولا تَشَدُّدُها إِذا تَقومُ إِلى جاراتِها الكَسَلُ إِذا تُعالِجُ قِرناً ساعَةً فَتَرَت وَاِهتَزَّ مِنها ذَنوبُ المَتنِ وَالكَفَلُ مِلءُ الوِشاحِ وَصِفرُ الدَرعِ بَهكَنَةٌ إِذا تَأَتّى يَكادُ الخَصرُ يَنخَزِلُ صَدَّت هُرَيرَةُ عَنّا ما تُكَلِّمُنا جَهلاً بِأُمِّ خُلَيدٍ حَبلَ مَن تَصِلُ أَأَن رَأَت رَجُلاً أَعشى أَضَرَّ بِهِ رَيبُ المَنونِ وَدَهرٌ مُفنِدٌ خَبِلُ نِعمَ الضَجيعُ غَداةَ الدَجنِ يَصرَعَها لِلَّذَةِ المَرءِ لا جافٍ وَلا تَفِلُ هِركَولَةٌ فُنُقٌ دُرمٌ مَرافِقُها كَأَنَّ أَخمَصَها بِالشَوكِ مُنتَعِلُ إِذا تَقومُ يَضوعُ المِسكُ أَصوِرَةً وَالزَنبَقُ الوَردُ مِن أَردانِها شَمِلُ



شرح الأبيات (14-21)

يستكمل الشاعر في هذا المقطع من القصيدة وصف محبوبته بأنها روضة أزهرت ورودها وجاد عليها المطر وأشرقت عليها الشمس لتنعكس على جداولها المحاطة بالنباتات الخضار الجميلة وتفوح منها رائحة طيبة، ونتيجة ذلك كلّه تعلّق بها الشاعر ووقع في حبّها، لكنها لا تبادله هذا الحبّ وتحبّ رجلًا غيره لا يأبه بها ولا يُعطيها اهتمامًا، فيضحك متعجبًا من هذا الأمر وهذه المصادفات.[٤]


كما يتعجّب الشاعر من صدّ هذه المحبوبة عنه، فلو أنها رأته في أيام شبابه وفي إقبال الأيام عليه لكان حالهما غير ذلك، لكنها رأته رجلًا أضرّ به الزمن وعضّه الدهر حتى بدا كالأسد المخبول، فكان لقاؤهما خشنًا جافيًا، والأبيات الشاهدة على ذلك هي:[٤]


ما رَوضَةٌ مِن رِياضِ الحَزنِ مُعشَبَةٌ خَضراءُ جادَ عَلَيها مُسبِلٌ هَطِلُ يُضاحِكُ الشَمسَ مِنها كَوكَبٌ شَرِقٌ مُؤَزَّرٌ بِعَميمِ النَبتِ مُكتَهِلُ يَوماً بِأَطيَبَ مِنها نَشرَ رائِحَةٍ وَلا بِأَحسَنَ مِنها إِذ دَنا الأُصُلُ عُلَّقتُها عَرَضاً وَعُلَّقَت رَجُلاً غَيري وَعُلَّقَ أُخرى غَيرَها الرَجُلُ وَعَلَّقَتهُ فَتاةٌ ما يُحاوِلُها مِن أَهلِها مَيِّتٌ يَهذي بِها وَهِلُ وَعُلِّقَتني أُخَيرى ما تُلائِمُني فَاِجتَمَعَ الحُبَّ حُبّاً كُلُّهُ تَبِلُ فَكُلُّنا مُغرَمٌ يَهذي بِصاحِبِهِ ناءٍ وَدانٍ وَمَحبولٌ وَمُحتَبِلُ قالَت هُرَيرَةُ لَمّا جِئتُ زائِرَها وَيلي عَلَيكَ وَوَيلي مِنكَ يا رَجُلُ



شرح الأبيات (22-34)

يصف الشاعر في هذا المقطع نفسه في مجلس خمر مع أصحابه؛ فيسألهم عن السحاب العارض الذي مرّ أمامه وبقي نظره معلقًا به لم يصرفه عنه ما كان فيه من لهو، وماذا يرون فيه وأين يتوقعون نزوله، وهم في حدس وتخمين كلّ يتوقع الأرض التي سيصيبها هذا العارض بمائه ذاكرين أسماء مواضع عديدة، مثل: نمار، وبطن الخال، والعسجدية، والأبلاء، وغيرها، لكنّ الشاعر يراها أنها ستسقي ديار محبوبته التي أصبحت بعيدة لا تقصدها الخيل ولا الركبان، ومن الأبيات الدالة على ذلك الآتي:[٤]


يا مَن يَرى عارِضاً قَد بِتُّ أَرقُبُهُ كَأَنَّما البَرقُ في حافاتِهِ الشُعَلُ لَهُ رِدافٌ وَجَوزٌ مُفأَمٌ عَمِلٌ مُنَطَّقٌ بِسِجالِ الماءِ مُتَّصِلُ لَم يُلهِني اللَهوُ عَنهُ حينَ أَرقُبُهُ وَلا اللَذاذَةُ مِن كَأسٍ وَلا الكَسَلُ فَقُلتُ لِلشَربِ في دُرنى وَقَد ثَمِلوا شيموا وَكَيفَ يَشيمُ الشارِبُ الثَمِلُ بَرقاً يُضيءُ عَلى أَجزاعِ مَسقِطِهِ وَبِالخَبِيَّةِ مِنهُ عارِضٌ هَطِلُ قالوا نِمارٌ فَبَطنُ الخالِ جادَهُما فَالعَسجَدِيَّةُ فَالأَبلاءُ فَالرِجَلُ فَالسَفحُ يَجري فَخِنزيرٌ فَبُرقَتُهُ حَتّى تَدافَعَ مِنهُ الرَبوُ فَالجَبَلُ حَتّى تَحَمَّلَ مِنهُ الماءَ تَكلِفَةً رَوضُ القَطا فَكَثيبُ الغَينَةِ السَهِلُ يَسقي دِياراً لَها قَد أَصبَحَت عُزُباً زوراً تَجانَفَ عَنها القَودُ وَالرَسَلُ



شرح الأبيات (35-53)

يتجه الشاعر بعد وصفه الدقيق -بالتحديد في الأبيات من 35 إلى 44- لأيّام شبابه وحياته في الحوانيت ومع الغانيات وأصحاب اللذة واللهو والساقي الذي يلفّ يسقيهم الخمر إلى الحديث عن الغرض الأساسي من القصيدة وهو هجاء يزيد الشيباني، فيوجّه له رسالة مفادها التهديد والوعيد ونعته بالصفات القبيحة، إذ يصفه بأنه حين ينفر الناس للقتال وتشبّ الحرب وينتشر المقاتلون يبدو كوعل أحمق ينطح صخرة ليفلقها لكنه لا يُضيرها وإنما يكسر قرنه ويشقّه، ويستمرّ بعد ذلك بهجائه والحديث عن ضعفه ومساوئه.[٤]


وينتقل الشاعر بعد ذلك إلى الفخر بنفسه وبقبيلته ويعدد القبائل التي عادوها فقهروها ومنهم أسد وقُشير، فيقول كنّا إذا قاتلناهم قتّلناهم تقتيلًا وكانوا هم الجناة على أنفسهم بما جاروا علينا، وفي المقابل لنا أحلاف يقفون إلى جانبنا ويصبرون على النضال فاحذر يا ابن شيبان ولا تستهِن بنا، ومن الأبيات الدالة على ذلك:[٤]


إِمّا تَرَينا حُفاةً لا نِعالَ لَنا إِنّا كَذَلِكَ ما نَحفى وَنَنتَعِلُ فَقَد أُخالِسُ رَبَّ البَيتِ غَفلَتَهُ وَقَد يُحاذِرُ مِنّي ثُمَّ ما يَئلُ وَقَد أَقودُ الصَبى يَوماً فَيَتبَعُني وَقَد يُصاحِبُني ذو الشِرَّةِ الغَزِلُ وَقَد غَدَوتُ إِلى الحانوتِ يَتبَعُني شاوٍ مِشَلٌّ شَلولٌ شُلشُلٌ شَوِلُ في فِتيَةٍ كَسُيوفِ الهِندِ قَد عَلِموا أَن لَيسَ يَدفَعُ عَن ذي الحيلَةِ الحِيَلُ نازَعتُهُم قُضُبَ الرَيحانِ مُتَّكِئاً وَقَهوَةً مُزَّةٌ راوُوقُها خَضِلُ لا يَستَفيقونَ مِنها وَهيَ راهَنَةٌ إِلّا بِهاتِ وَإِن عَلَّوا وَإِن نَهِلوا يَسعى بِها ذو زُجاجاتٍ لَهُ نُطَفٌ مُقَلِّصٌ أَسفَلَ السِربالِ مُعتَمِلُ وَمُستَجيبٍ تَخالُ الصَنجَ يَسمَعُهُ إِذا تُرَجِّعُ فيهِ القَينَةُ الفُضُلُ مِن كُلِّ ذَلِكَ يَومٌ قَد لَهَوتُ بِهِ وَفي التَجارِبِ طولُ اللَهوِ وَالغَزَلُ وَالساحِباتُ ذُيولَ الخَزِّ آوِنَةً وَالرافِلاتُ عَلى أَعجازِها العِجَلُ أَبلِغ يَزيدَ بَني شَيبانَ مَألُكَةً أَبا ثُبيتٍ أَما تَنفَكُّ تَأتَكِلُ أَلَستَ مُنتَهِياً عَن نَحتِ أَثلَتِنا وَلَستَ ضائِرَها ما أَطَّتِ الإِبِلُ تُغري بِنا رَهطَ مَسعودٍ وَإِخوَتِهِ عِندَ اللِقاءِ فَتُردي ثُمَّ تَعتَزِلُ لَأَعرِفَنَّكَ إِن جَدَّ النَفيرُ بِنا وَشُبَّتِ الحَربُ بِالطُوّافِ وَاِحتَمَلوا كَناطِحٍ صَخرَةً يَوماً لِيَفلِقَها فَلَم يَضِرها وَأَوهى قَرنَهُ الوَعِلُ لَأَعرِفَنَّكَ إِن جَدَّت عَداوَتُنا وَاِلتُمِسَ النَصرُ مِنكُم عوضُ تُحتَمَلُ تُلزِمُ أَرماحَ ذي الجَدَّينِ سَورَتَنا عِندَ اللِقاءِ فَتُرديهِم وَتَعتَزِلُ لا تَقعُدَنَّ وَقَد أَكَّلتَها حَطَباً تَعوذُ مِن شَرِّها يَوماً وَتَبتَهِلُ قَد كانَ في أَهلِ كَهفٍ إِن هُمُ قَعَدوا وَالجاشِرِيَّةِ مَن يَسعى وَيَنتَضِلُ سائِل بَني أَسَدٍ عَنّا فَقَد عَلِموا أَن سَوفَ يَأتيكَ مِن أَنبائِنا شَكَلُ وَاِسأَل قُشَيراً وَعَبدَ اللَهِ كُلُّهُمُ وَاِسأَل رَبيعَةَ عَنّا كَيفَ نَفتَعِلُ إِنّا نُقاتِلُهُم ثُمَّتَ نَقتُلُهُم عِندَ اللِقاءِ وَهُم جاروا وَهُم جَهِلوا كَلّا زَعَمتُم بِأَنّا لا نُقاتِلُكُم إِنّا لِأَمثالِكُم يا قَومَنا قُتُلُ حَتّى يَظَلَّ عَميدُ القَومِ مُتَّكِئاً يَدفَعُ بِالراحِ عَنهُ نِسوَةٌ عُجُلُ



السمات الفنية في قصيدة ودّع هريرة

اصطبغت معلقة الأعشى الكبير بمجموعة من الخصائص والسمات الفنية، يُذكر منها الآتي:[٥][٦]

  • اتساق القصيدة وانسجام أجزائها ودلالاتها مع بعضها بعضًا من خلال شبكة من الإحالات النصية والمقامية.
  • الإكثار من استخدام الضمائر التي تخدم اللغة الشعرية، إلى جانب الإكثار من استخدام أدوات التشبيه وصيغ التفضيل.
  • بروز أسلوب التكرار في القصيدة والتنويع فيه، الأمر الذي ساعد على استمرار الدلالات المعجمية وتماسكها مع بعضها بعضًا.
  • دقة الوصف والتعبير عن صفات المحبوبة وصورتها وكأنها تقف أمام الشاعر، بالإضافة إلى تشخيص بعض عناصر الطبيعة وإعطائها صفة الديناميكية والحركية.


المراجع

  1. أحمد بن الأمين الشنقيطي، المعلقات العشر وأخبار قائليها، صفحة 124. بتصرّف.
  2. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، صفحة 333. بتصرّف.
  3. الزوزني، شرح المعلقات العشر، صفحة 315. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت ث ج ح خ د ذ الأعشى، ديوان الأعشى، صفحة 54-62. بتصرّف.
  5. عبد الله بن سليمان، الاتساق النصي في معلقة الأعشى، صفحة 17. بتصرّف.
  6. بتول البستاني، ميلاد المولى، تشبيه الاستدارة في شعر الأعشى، صفحة 6. بتصرّف.