قصيدة لأهمّ فارس شهدته ذاكرة العرب في العصر الجاهلي ولا تزال شهرته إلى يومنا الحاضر صاحبها عنترة بن شدّاد وقيلَ (ابن عمرو بن شدّاد) العبسيّ، أبوه من أشراف عبس وأمّه أمَةٌ حبشيّة، لُقب بعنترة الفلحاء، وكان من عادة العرب إذا استولدوا الإماء من العبيد أنْ لا يلحقوهم بأنسابهم إلّا إذا أظهروا نجابةً وشجاعة، وكذلك فعل عنترة في قصيدته عتبت الدّهر[١]، لمّا أظهر شجاعةً فذّة فكان من أفرسِ فرسان العرب كما كان دون شكّ من أشعر الشعراء العرب، حيثُ كان منذ نشأته الأولى قد سمع الشّعر وحفظه وأعجب به تذوّقه، وأجرى على نفسه مجراه، وسار على طريقه، وتنوعت موضوعات شعره، وله من الشعر الكثير، وجُمع شعره في ديوان.[٢]


مناسبة القصيدة

جاءت قصيدة عتبت الدهر لشاعرها عنترة بن شدّاد لتصوّر لنا عتب ولوم الشاعر على الدّهر فهو من الرّقيق وابن الحبشيّة التي سباها أبوه، بالإضافة إلى أنه قد أحبّ ابنة عمه عبلة لكنّ عمه لم يزوجه إيّاها رغمَ أنَّه أثبت أنَّه فارسٌ مقدام وعلى خُلُق عربيّ أصيل، فلما أغارت قبيلة بني طيء على قبيلة بني قيس، وأصابوا منهم وقتلوا أنفارًا من الحيِّ، وسبوا نساءً كثيرةً، وحينها كان عنترة معتزلًا عنهم في ناحية إبله على فرس له، فمرّ به أبوه فقال له:ويكَ يا عنترة كرّ - بمعنى قاتل- فقال عنترة: العبدُ لا يُحسن الكرّ إنّما يُحسن الحلب والصّرَّ فقال أبوه كُرّ وأنت حرّ، فكرَّ وقاتل ببسالة، وهبّت في أثره رجال قبيلة عبس فهزم السّرية المغيرة واستنقذ الغنيمة من أيديهم، وقال في ذلك قصيدة عتبتُ الدَّهر وهي قصيدة من ستة عشر بيتًا من البحر الوافر جاء فيها:[٣]


عِقابُ الهَجرِ أَعقَبَ لي الوِصال وَصِدقُ الصَبرِ أَظهَرَ لي المُحالا وَلَولا حُبُّ عَبلَةَ في فُؤادي مُقيمٌ ما رَعَيتُ لَهُم جِمالا عَتَبتُ الدَهرَ كَيفَ يُذِلَّ مِثلي وَلي عَزمٌ أَقُدُّ بِهِ الجِبالا أَنا الرَجُلُ الَّذي خُبِّرتَ عَنهُ وَقَد عايَنتَ مِن خَبري الفِعالا غَداةَ أَتَت بَنو طَيٍّ وَكَلبٍ تَهُزُّ بِكَفِّها السُمرَ الطِوالا بِجَيشٍ كُلَّما لاحَظتُ فيهِ حَسِبتُ الأَرضَ قَد مُلِأَت رِجالا وَداسوا أَرضَنا بِمُضَمَّراتٍ فَكانَ صَهيلُها قيلاً وَقالا تَوَلَّوا جُفَّلاً مِنّا حَيارى وَفاتوا الظُعنَ مِنهُم وَالرِحالا وَما حَمَلَت ذَوُو الأَنسابِ ضَيم وَلا سَمِعَت لِداعيها مَقالا وَما رَدُّ الأَعِنَّةِ غَيرُ عَبدٍ وَنارُ الحَربِ تَشتَعِلُ اِشتِعالا بِطَعنٍ تُرعَدُ الأَبطالُ مِنهُ لِشِدَّتِهِ فَتَجتَنِبُ القِتالا صَدَمتُ الجَيشَ حَتّى كُلَّ مُهري وَعُدتُ فَما وَجَدتُ لَهُم ظِلالا وَراحَت خَيلُهُم مِن وَجهِ سَيفي خِفافاً بَعدَما كانَت ثِقالا تَدوسُ عَلى الفَوارِسِ وَهيَ تَعدو وَقَد أَخَذَت جَماجِمَهُم نِعالا وَكَم بَطَلٍ تَرَكتُ بِها طَريح يُحَرِّكُ بَعدَ يُمناهُ الشِمالا وَخَلَّصتُ العَذارى وَالغَواني وَما أَبقَيتُ مَع أَحَدٍ عِقالا



بناء القصيدة

نراه في شعره بشكلٍ عام لا يميلُ إلى المطوّلات وإنّما عُني بالمقطوعات؛ لما تمتاز به من مرونة في الوزن والسّبك، وبما يتناسب مع تغيّر الانفعالات النَّفسيّة للشّاعر، وقد وضع بين أيدينا مقطوعةً من البحر الوافر، وهي قصيدة عموديّة تتكوّن من ستة عشر بيتًا.[٤]


تسلسل الأفكار وشرح القصيدة

فمن خلال القصيدة نرى تسلسلًا منطقيًا وجميلًا أجاده الشّاعر لمّا بدأ بالغزل العذري العفيف ورغبته في وصال عبلة، الّذي تداخل مع لومه للدّهر وحزنه من هجر المحبوبة وعبوديته التي وُسِم بها، ثمّ انتقل بنا إلى ساحة المعركة، ويجسدُ لنا صورة البطولة الخالصة، وقد اشتعل في قلبه لهيب الحريّة والنّفور من ذلّ العبوديّة، ولهيب الحب ليثبت لقبيلته ولعمه بأنَّه فارس حرُّ يستحق هذا اللّقب.[٥]

فقد استهلّ عنترة قصيدته بموضوع الغزل العذريّ، ومعاناته من وصال محبوبته عبلة الّتي رفض عمه أن يزوجها له؛ لأنه عبدٌ من الرّقيق، ثمّ يعاتب الدّهر ويلومه لما أصابه من ذلٍّ وقهر فقد عانى منذ بداية حياته ونشأته ذلك الانقسام في قبيلته إلى عبيدٍ وأحرار، حيثُ يرى العبيد أنفسهم محتقرين ومستضعفين ليس لهم مِن الحقوق شيء، ونظر إلى نفسه فرأى فيها همّةً وقوةً تهدّ الجبال، ورأى أنّه أعظم من أن يعيش عبدًا مغمورًا فلديه من القوّة والشّجاعة ما لم تكن بين الرّجال، وبلغت شهرة عنترة في شجاعته وفروسيته شأنًا هابته الفرسان والأبطال؛ حتّى كانت تحسب له حسابًا، وتخافه خوفًا شديدًا، فنراه يشارك في المعارك ليثبت لقبيلته وقومه بأنه فارس مقدام، ينزل الأخطار، ويجول الأهوال، ويخوض المعارك، يندفع انطلاقًا من حبّه لعبلة، ويجعل هذا العشق باعثًا له على العمل الجاد في سبيل حريته ومعشوقته، واستخدم لنا قدرته المبدعة في نسج الشّعر وصياغته ليجسّد لنا صورة ذلك العبد الأسود صاحب القوّة، والشّجاعة، والحميّة، فقد استطاع ردّ جيشٍ بخيلٍ مسوّمة، ورجالٍ أبطال من بني طيء وبني كلب، فدافع عن القبيلة بشجاعة الفارس العربي الحرّ، فقتل عددًا كبيرًا من فوارس بني طيء الأشداء الأقوياء، وأخذ يصف قوة جيش العدو ممّن أغاروا على قبيلته، حتى أن قوة العدو تهابها الرّجال لكنّه استطاع بشجاعته وسيفه أن يقتل الرّجال، ويوقعهم عن الخيول فصارت خفيفةً بعد أنْ وقع عنها فرسانها وباتت جماجمهم تدوسها الخيل. ويختم قصيدته لمّا أعاد لبني عبس عزّها بسيفه، وخلّص النّساء، وحررّ العذارى من قبضتهم، واستحوذ على الغنائم.[٦]


البطولة الحربية ووصف المعارك

الجدير بالذّكر بأنّ فكرة البطولة في شعره تنم عن خصائص وصفات البطل؛ كالإقدام، والشجاعة الدّائمة، والمروءة، والبطولة الكاملة، وغيرها من الصّفات، وكان دائمًا يربط صورة البطل بشخصه فعرّفنا عن نفسه أجمل تعريف، ذلك الفارس المغوار الذي تهابه رجال القبائل العربية كافّةً، فقد اشتهر عنترة بين قومه بشجاعته التي كانت محطّ إعجاب الجميع، حتى قيل أنّ غاية عنترة في طول حديثه عن البطولة، ورسم صورة البطل الكامل تكمن في محاولته لتغطية عقدة النّقص، ومحاولة لتغطية نشأته عبدًا رقيقًا، واستبدالها بصورةٍ مشرقة له لا تقلّ عن صورة الأحرار، فنراه في شعره يتغنى ببطولته الفذّة، وبسالته، وقوته، وفروسيته.[٧]


الصورة الفنيّة

إذا أمعنت نظرك في هذه القصيدة، وحتى في سائر شعره تجد أنّ شاعرنا استطاع توظيف الصّورة بشكلٍ بارع، وتنوعت أساليبه بين الاستعارة، والكناية، والمجاز، ومالَ كثيرًا من خلالها إلى التّصوير الواقعي. ففي البيت الثالث من القصيدة قام الشّاعر بأنسنة وتشخيص الدّهر، وكأنه يعاتب شخصًا ما، ويحاكيه عمَّا أصابه من حبٍّ، وهجرٍ لعبلة من ناحية، وشعوره تجاه عبوديته من ناحيةٍ أخرى. وذلك بقوله:


عَتَبتُ الدَهرَ كَيفَ يُذِلَّ مِثلي وَلي عَزمٌ أَقُدُّ بِهِ الجِبالا



كما جسّد لنا صورة المعركة ماثلةً أمامنا من خيلٍ وقتلى، وبذلك كان عنترة أصدق وجدانًا، وأرقّ عاطفةً، وهو في وصفه للمعارك شاعر ملحمي فيّاض القريحة، يلتهب حماسةً، وينظم الشّعر، ويصف مواقعه.[٨]

فنراه قد رسمَ لنا الصّورة الواقعية لفرسان بني طيء ورجالاتهم، وهم يهزون ويغلبون بأكفِّهم السّمر الطّوال، وهي كنايّة عن القوّة والضخامة، ثمّ رسم لنا الصّورة الواقعية لعظم جيش بني طيء وقوته وكثرة رجاله وفرسانه.


غَداةَ أَتَت بَنو طَيٍّ وَكَلبٍ تَهُزُّ بِكَفِّها السُمرَ الطِوالا بِجَيشٍ كُلَّما لاحَظتُ فيهِ حَسِبتُ الأَرضَ قَد مُلِأَت رِجالا



والملفت للنّظر بأنّ عنترة في قصيدته هذه قد صوّر لنا البطولة تصويرًا واقعيًا حسنًا جميلًا، ورائعًا ورسم لنا صورة الفارس والبطل المقاتل الّذي وقف لوحده في وجه بني طيء الأشدّاء، فقتل بضربة من سيفه الفرسان الأشداء:


وَراحَت خَيلُهُم مِن وَجهِ سَيفي خِفافاً بَعدَما كانَت ثِقالا


ثمّ تظهر جمالية الصّورة الفنيّة بعد أن أصبحت جماجم القتلى من بني طيء تدوسها الخيل، وكأنها نعال لبستها الخيل بأرجلها بعد أن سقط فرسانها أرضًا على يد فارسٍ قوي هو عنترة بن شدّاد:


تَدوسُ عَلى الفَوارِسِ وَهيَ تَعدو وَقَد أَخَذَت جَماجِمَهُم نِعالا



لقد طارت شهرة عنترة بالفروسيّة، والشّجاعة النّادرة منذ الجاهليّة، وما زالت ذكراه عالقةً بالأذهان فكان مثالًا للبسالة والبطولة الحربيّة، وامتزجت فروسيته بحبٍّ سامٍ لابنة عمه عبلة، وحبُّ هذا ينمُّ عن صفاء النّفس ونقاء القلب، وفيها التّسامي عن الدنايا والنّقائص، بما ملأ النّفوسَ بالأنفة، والعزة، والكرامة، والحس المرهف، والشّعور الرقيق. فشعره يأسر لبّك وقلبك، بمُثلِه البطوليَّة الرَّفيعة، فهو فارس مغوار بذل نفسه، وروحه في سبيل قومه، وفي سبيل حريته، ونيل مراده.[٩]


ولقراءة تحضير المزيد من القصائد: قصيدة لمن نغني، قصيدة في مدخل الحمراء.

المراجع

  1. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 368. بتصرّف.
  2. محمد سعيد مولوي، ديوان عنترة بن شداد، صفحة 37. بتصرّف.
  3. عُني بتصحيحه أمين سعيد، شرح ديوان عنترة بن شداد، مصر:المطبعة العربية بمصر، صفحة 119-120. بتصرّف.
  4. محمد سعيد مولوي، ديوان عنترة بن شداد، صفحة 37. بتصرّف.
  5. محمد سعيد مولوي، ديوان عنترة، صفحة 65. بتصرّف.
  6. محمد سعيد مولوي، ديوان عنترة بن شداد، صفحة 68-39. بتصرّف.
  7. محمد سعيد مولوي، ديوان عنترة بن شداد، صفحة 71-82-83-84. بتصرّف.
  8. حنا الفاخوري (1987)، في تاريخ الأدب العربي حنا الفاخوري&hl=ar&sa=X&ved=2ahUKEwiW8c66uKvxAhUVoFwKHRQ3CdoQuwUwAHoECAkQBg#v=onepage&q=الجامع في تاريخ الأدب العربي حنا الفاخوري&f=false الجامع في تاريخ الأدب العربي (الطبعة 12)، صفحة 211. بتصرّف.
  9. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 371-374-369، جزء 1. بتصرّف.