قصيدة يافا هي للشاعر محمد مهدي الجواهري، المعروف من أسرةٍ تهتمّ بالدين، والشعر، والأدب في النجف وتحديداً في العراق، ووُصف بالعديد من الأوصاف منها: شاعر العرب الأكبر، ومتنبي العصر، وأمير الشعراء بعد أحمد شوقي، وغيرها الكثير من الألقاب[١]، إلّا أنّ سرّ شهرته بهذا اللقب "الجواهريّ" هو أنّ جدّه الفقيه الشيخ محمد حسين ألّف كتاباً بعنوان "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام للمحقق علي"، حتى التصق اللقب بعائلته كلها إلى الآن[٢].


مناسبة القصيدة

كلّفت هيئة الإذاعة البريطانية في بغداد الجواهري بإحياء أمسيةٍ شعرية في يافا، وبالفعل لبّى الجواهري النداء مسرعًا متلهفًا لاحتضان الحبيبة بكلماته وأشعاره. ويقول الجواهري في كتابه "مذكراتي" بعدما رأى جمال يافا من الأعلى: "وفي الطائرة، وفي أول مرحلة مطمئنة منها ابتدأتُ أدمدمُ بقصيدتي (يافا)[٣]، وفورَ وصوله استقبلته أرض فلسطين بحفاوةٍ، وأقيم له حفل فخمٌ وجميل بحضور شخصياتٍ بارزة، فألقى فيها بقصيدته تلك التي قوبلت بالتصفيق الحار[٤]. وقد كتبها عام 1925؛ أي قبل احتلال يافا بثلاثةٍ وعشرين عامًا، ثمّ نشرت بعدها بجريدة "الرأي العام" الصادرة في السادس عشر من آذار لعام 1945[٥].


شرح القصيدة وصورها الفنية

"يافا الجميلة" هو العنوان الذي اختاره الجواهري لقصيدته، ولعل أول ما يطالعك في بنية القصيدة عند الجواهري هو عنوانها، فالعنوان أول عتبة تواجه الدارس، وعليه أن يقوم بدراسته واستنطاقه، وبخاصة أن العنونة ظاهرة حديثة قلّما اعتنت بها الشعرية القديمة[٦]، إلا أنّ الجواهري اعتنى فيها كما هو ملاحظ في كافة عناوين قصائده التي ينتقيها بدقةٍ وعناية. وقد ألقى الجواهري الضوء في هذه القصيدة على روعة تلك المدينة، وأبرزَ بين سطورها سحرها الأخّاذ، فيبدأ القول:[٧]


بيافا يومَ حُطَّ الرٍكابُ تمطَّر عارضٌ ودجا سحابُ



ولفَّ الغادة الحسناءَ ليل مريبُ الخطوِ ليس به شهابُ وأوسعها الرذاذ السحُّ لثماً ففيها من تحرُّشِهِ اضطرابُ ويافا والغيوم تطوف فيها كحالمة يجللها اكتئابُ



عُرِف الجواهري بقوّة مَطَالِعه، وبتركيزه على جعلها قوية التعبير، جزيلة الألفاظ، تشدُ انتباه القارئ، كما نرى في مطلع قصيدته هذه.[٨]

يقول الجواهري أن تلك تجربته الأولى في الطيران، وبطريقه إلى يافا سَحَره منظر السماء واستأنس بالغيوم الكائنة فيها، فلم يستطع إلا أن يبدأ شعره بوصف جمال سماء يافا، وسحابها، ومطرها الخفيف، وهذا ما نلحظه في أبياته الأولى من القصيدة [٩]. ثم يقول: [٧]



وقفتُ مُوزَّعَ النَّظَراتِ فيها لِطَرفي في مغَانيها انْسياب  وموجُ البحرِ يَغسِلُ أخْمَصَيْها وبالأنواءِ تغتسلُ القِباب  وبيّاراتُها ضَربَتْ نِطاقاً يُخطِّطُها كما رُسمَ الكتاب  فقلتُ وقد أُخذتُ بسِحر " يافا " واترابٍ ليافا تُستطاب  " فلسطينٌ " ونعمَ الأمُ ، هذي بَناتُكِ كلُها خوْدٌ كَعاب



أمّا وقوفه هنا فمعنويّ، بمعنى تأملتُ جمالها منبهرًا بها. ثم شبهها وكأنها حسناء يتسابق لرعايتها والعناية بها الجميع؛ فشبه أمواج البحار وكأنها تغسل باطن أقدامها، وشبه الأمطار (الأنواء) وكأنها تغسل قبابها وتنقيها. ثمّ ينتقل مؤكدًا أن كل مدن فلسطين جميلة كيافا، فشبه فلسطين وكأنها الأم، وبناتها حولها (خود) جميلات حسناوات. ثم يقول:[٧]


أقَّلتني من الزوراءِ رِيحٌ إلى " يافا " وحلَّقَ بي عُقاب  فيالَكَ " طائراً مَرِحاً عليه طيورُ الجوِّ من حَنَقٍ غِضاب  كأنَّ الشوقَ يَدفَعُهُ فيذكي جوانِحَهِ من النجم اقتراب  ركبِناهُ لِيُبلِغَنا سحاباً فجاوزَه لِيبلُغَنا السّحاب  أرانا كيف يَهفو النجمُ حُبَّاً وكيفَ يُغازِلُ الشمسَ الَّضَباب  وكيفَ الجوُّ يُرقِصُهُ سَناها إذا خَطرتْ ويُسكِره اللُعاب  فما هيَ غيرُ خاطرةٍ وأُخرى وإلاّ وَثْبةٌ ثُمَّ انصِباب  وإلاّ غفوةٌ مسَّتْ جُفوناً بأجوازِ السماءِ لها انجِذاب  وإلاّ صحوةٌ حتّى تمطَّتْ قوادِمُها، كما انتفَضَ الغُراب



هنا استخدم الجواهري أسلوبًا عجيبًا، فقد وضع بيتًا في منتصف قصيدته يُحمل أن يكون هو البيت الأول لأسبقيّته الزمنية، وهذا التغيّر الزمني يُبقي السامع منجذبًا للقصيدة. فشبه الطائرة التي أقلته ليافا بالريح وبالعقاب لسرعتها، شاعراً بأن شدة شوقه لزيارتها هو الذي كان يدفع الطائرة ويجعلها تحلق عاليًا وصولًا للنجوم.


ثم يوثق الشاعر لحظة وصوله، فيقول إنه بعدما اشتمّ رائحة عطر وأريج خلابة وكأنها قادمة من الجنة تأكد من أنه حطّ على أرض يافا. وأثناء استمتاعه برائحتها، وجمالها نزلت منه دموعُ عتاب، لم يعلم لمن يوجهها متسائلاً: كيف أنّنا أمّة واحدة لغتنا واحدة، أرضنا واحدة، تربتنا واحدة، ملامحنا هيَ هيَ، إلا أنّه لا تضمنا دولةً واحدة! كيف لهذه الحدود التي وضعها الغرب أن تكون حاجزًا بيننا فلا نعود جسدًا واحدًا؟! فاجتاحه واجتاح كل من سمع هذه الكلمات الحزن والبكاء، فالجواهري يقول في مذكراته: "أنه عندما ألقى القصيدة، ووجدها قد قوبلت بفرح واعتزاز كبير من قبل الشعب الفلسطيني وكل من حضر الحفل، وصل إلى المقطع الفريد منها، قائلاً:[٧]


فهنا ينادي الجواهري دياره، وصحبه فيشعرهم بمعنى الأخوة والانتماء، ويخبرهم بأن ألمنا واحد، وهمومنا واحدة، ولنا ماضٍ مجيد، وبإذنه تعالى سيكون لنا مستقبل مشرّف معًا. وبهذه الأبيات يؤكد الجواهري على وحدة الشعوب العربية والرابطة التي تجمعها. فيقول:[٧]


وبعد مكوثه في يافا مدةً ليست بطويلة كان لا بد أن يغادرها، فشبه قلبه بأنه يذوب حزنًا لفراقها. وقائلًا بأن عزاؤه الوحيد مغادرته أهله ليذهب إلى أهله، وكأن كل الدول العربية سواء بسواء هي أهل له من يافا إلى العراق. فيقول:[٧]


قَوافِيَّ التي ذوَّبتُ قامَتْ بِعُذري إنّها قلبٌ مُذاب وما ضاقَ القريضُ به ستمحو عواثِرَهُ صُدورُكم الرّحاب لئنْ حُمَّ الوَداعُ فضِقتُ ذَرعاً به، واشتفَّ مُهجتيَ الذَّهاب فمِنْ أهلي إلى أهلي رجوعٌ وعنْ وطَني إلى وطني إياب



ولقراءة تحضير المزيد من القصائد: قصيدة جمرة الشهداء، قصيدة ليل وصباح.


المراجع

  1. صيتة علي عواد الحربي، الحنين للوطن في شعر الجواهري: دراسة فنية، صفحة 10. بتصرّف.
  2. صيتة علي عواد الحربي، الحنين للوطن في شعر الجواهري: دراسة فنية، صفحة 11. بتصرّف.
  3. مذكراتي الجزء الأول، محمد مهدي الجواهري، صفحة 428. بتصرّف.
  4. مذكراتي الجزء الأول، محمد مهدي الجواهري، صفحة 428. بتصرّف.
  5. محمد مهدي الجواهري، ديوان الجواهري في عيون شعره، صفحة 219. بتصرّف.
  6. صيتة علي عواد الحربي، الحنين للوطن في شعر الجواهري: دراسة فنية، صفحة 89.
  7. ^ أ ب ت ث ج ح محمد مهدي الجواهري، ديوان الجواهري في عيون شعره، صفحة 218.
  8. صيتة علي عواد الحربي، الحنين للوطن في شعر الجواهري: دراسة فنية، صفحة 89. بتصرّف.
  9. محمد مهدي الجواهري، مذكراتي الجزء الأول، صفحة 428. بتصرّف.