قصيدة إلى أمّي

تعودُ قصيدة "إلى أمّي"، للشَّاعرِ محمود درويش، وهو قامة من قامات الشّعر العربيّ الحديث، الّذي ارتبط اسمه بالثّورة والمقاومة والقضيَّة الفلسطينيَّة، نظرًا لتميُّز قصائده بقوّة العبارة، وإيحائيَّة المعنى، فكوّن لنفسه مكانة أدبيّة وثقافيّة واسعة، فأصبح ظاهرةً أدبيَّةً شعريَّةً متميّزةً، ومدرسةً إبداعيّة معطاءةً، فعرف عنه أنّه كان يحمل هموم وطنه وشعبه، بشعره الّذي جعل منه رسالة يوصل بها قضايا أمّته إلى العالم، ليُسمع بذلك صوت الفلسطينيّ الحرّ المظلوم، ولتحقيق الحرّيّة والأمان والسّلام، كما عُرف بحبّه لفلسطين، حيث لا تخلو قصائده من الإشارة لها، والتّعبير عنها، فهي بمثابة الأمّ، والحبيبة، وكلّ شيء.[١]


مناسبة القصيدة

نظم الشّاعر قصيدته "إلى أمّي" اعتذارًا لأمّه، فقد اعتقد الشّاعر أنّ أمّه كانت لا تحبّه مثل أخوته، وتفرّق بينهم، إلى أن سُجنَ عام 1965 على يد قوّات الاحتلال، فجرى أن زارته أمّه في السّجن، تحمل في يدها الخبز والقهوة لابنها، إلّا أنّ قوّات الاحتلال رفضت ذلك، فأصرّت حتّى سمحوا لها بإدخال ما تحمل لابنها، فشاهد حزنها وأساها، فارتمى بحضنها، وندم على ظلمه لأمّه، فكتب القصيدة لها كاعتذارٍ على ظلمه لها لسنوات عديدة، على ورق الألمنيوم المغلّف لعلبة سجائره، وقد ظهر محمود درويش بصورة واضحة، متألّما نادمًا مشتاقا لأمّه، ويشكو من البعد.[٢]


عنوان القصيدة "إلى أمِّي"

بدأ الشَّاعرُ في عنوانه بحرف الجرّ "إلى" متبوعًا بالاسم "أمّي"، ولم يكتفِ باللفظ "أمّي" فقط، وذلك لأنّ حرف الجرّ "إلى" يوحي بالرّسالة، والّتي أرسل بها الشّاعر محمود درويش وهو في السّجن، إلى أمّه، يبثّ لها مشاعره وشوقه لها وللطّفولة، أمّا إذا كان الشّاعر قد اعتمد اللفظ "أمّي" وحده في العنوان، دون حرف الجرّ "إلى" لتغيّرت الدّلالة الّتي كان يقصدها، ولأصبح العنوان عامًّا لا يدلّ على رسالة منه لأمّه. كما أنّ حرف الجرّ "إلى" يحمل دلالة البعد بين المرسل والمرسل إليه، ولهذا جاء توظيفه في العنوان مناسبًا جدًّا، ولن يؤدَّى الغرض المقصود من دونه.[٣]


تحليل وشرح أبيات القصيدة

يقول الشاعر:[٤]

أحنُّ إلى خبز أمِّي

وقهوة أُمِّي

ولمسة أُمِّي..

يتحدّث الشّاعر في هذه الأسطر الشّعريّة الثّلاثة عن حنينه، وشوقه إلى أمّه، وقهوتها، ولمستها؛ أي كلّ ما كان يعيشه معها، وما كان يراه فيها من حبٍّ، واعتناءٍ، وحنانٍ. ونلاحظ أنّ الشّاعر بدأ قصيدته بالفعل "أحنُّ"، وهو فعل مضارع، والفعل المضارع يدلّ على الاستمراريَّة، والتَّجدُّد، وهو يرتبط بشوق البعيد للبعيد، وهذا وصف لحال للشّاعر الّذي يقبع بعيدًا عن حضن أمّه في السّجن، فيحنُّ لها ويتألّم، كما أنّ الفعل "يحنُّ" ينتهي بحرف "النّون"، وهو من أكثر الحروف تعبيرًا عن الألم والحزن.


كما نلاحظ تدرّج الشّاعر في ذكر الأمور الّتي يحنّ إليها، بدءًا بالخبز"رمز الوجود والحياة" فهو مصدر الغذاء الأساسيّ، الّذي نعتمد عليه جميعًا، وأمّه رمز وجوده وحياته، ثمّ قهوة أمّه، حيث ترمز القهوة إلى الحياة الطّبيعيّة، والمستقرّة، والرّاحة، ورائحتها ترمز إلى رائحة البيت، وهي رمز للضّيافة والكرم. ثمّ تحدّث عن شوقه وحنينه إلى حضن أمّه ولمستها.


وبالنسبة لدلالة تكرار كلمة "أمّي": فيعدُّ التّكرار في الشّعر مأخذًا يؤخذ على الشّعراء، ولكنّ تكرار لفظ "أمّي" في قصيدة محمود درويش أضاف إيقاعًا موسيقيًّا، وجاء مناسبًا، فكأنّ الشّاعر في حنينه إلى أمّه، يستحضر وجودها، ويكرّر لفظها، حتّى يطرب به ويرتاح.[٥]


ثم يقول:[٤]

وتكبر فيَّ الطفولةُ

يوماً على صدر يومِ

يتحدّث الشّاعر عن حنينه لطفولته، مستذكرًا قربه من أمّه، وحبّها له. وقد وظّف الشّاعر أسلوب التّضاد "الطّباق"، وذلك في: تكبر والطّفولة، وقد لجأ الشّاعر إلى تنكير "يومٍ" للدّلالة على تعظيم اليوم الّذي ترعرع فيه عند أمّه.، و"تكبر فيّ الطّفولة" كناية عن صفة امتداد الإحساس العفويّ البريء، وإن طال العمر.[٦]


ثم يقول:[٤]

وأعشَقُ عمرِي لأنِّي

إذا مُتُّ

أخجل من دمع أُمِّي!

يعشق الشّاعر عمره وأيّامه، وذلك بسبب حرصه الشّديد على ألّا يدخل الحزن على قلب أمّه الحنون، التّي ستفجع إن أصابه مكروهٌ، والشّاعر يرى أنّ موته يجعله خجلًا من حزن أمّه ودموعها عليه.وهنا وظّف الشّاعر أسلوب الشّرط، باستخدام أداة الشّرط "إذا".


ثم يقول:[٧]

خذيني، إذا عدتُ يوماً

وشاحاً لهُدْبِكْ

وغطّي عظامي بعشبٍ

تعمَّد من طهر كعبك

وشُدّي وثاقي..

بخصلة شعرٍ..

بخيطٍ يلوَّح في ذيل ثوبك..

عساني أصيرُ إلهاً

إلهاً أصيرْ.

إذا ما لمستُ قرارة قلبك!

ضعيني، إذا ما رجعتُ

وقوداً بتنور ناركْ...

وحبل غسيل على سطح دارك

لأني فقدتُ الوقوف

بدون صلاة نهارك

يناجي هنا الشّاعر أمّه، ويطلب منها أن تأخذه، وتعتني به، حيث يتمنّى العودة إلى أمّه ووطنه، ولشدّة حاجته إليهما يطلب من أمّه أن تجعله كالوشاح، وفي هذا دلالة على رغبته بالالتصاق المعنويّ، فالوشاح في حياة المرأة من الضّروريّات، حيث تضعه على رأسها.


دلالات بعض الألفاظ:[٨]

  • (بعشبٍ/ تعمّد): يريد الشّاعر من أمّه أن تغطّيه بعشبٍ تعمّد من طُهر كعبها.
  • (شدّي وثاقي): تعبير عن رغبة الشّاعر بالارتباط، والالتصاق المعنويّ بأمّه.


وأخيرًا يقول:[٩]

هَرِمْتُ، فردّي نجوم الطّفولة

حتى أُشارك

صغار العصافير

درب الرجوع...

لعُشِّ انتظارِك!

يقول الشّاعر أنّه أصبح الآن هرمًا، ويرغب لو يرجع إلى عمر الطّفولة، يحيا مع الصّغار، ويشاركهم السّير في طريق العودة. ويشير بالألفاظ الآتية إلى:[٣]

  • صغار العصافير: صوّر الشّاعر أصدقا الطّفولة بصغار العصافير.
  • العشّ: يرمز إلى فلسطين، وهو مرتبط بالمكان.


العواطف في القصيدة

امتلأت القصيدة بعواطف الحبّ، والشّوق، والحنين، والأمومة، والحزن، والبرّ، بالإضافة إلى العواطف الّتي أثارتها القصيدة في نفس المتلقّي من شفقةٍ، وحزنٍ، وعشقٍ، وحنانٍ، بالإضافة إلى الإحساس بأنّ الشّاعر يتحدّث بلسان كلّ واحدٍ منّا.[١٠]


وللاطلاع على شرح المزيد من القصائد: قصيدة غضب الحبيب، قصيدة على الدرب.


المراجع

  1. محمّد بو حجر، التّجربة الشّعريّة عند محمود درويش، صفحة 4-5. بتصرّف.
  2. ياسين بغورة، تطوّر الرؤية الفنية في شعر محمود درويش، صفحة 172-175. بتصرّف.
  3. ^ أ ب مريم مت داود، يعقوب حسن، إستراتيجية تدريس النص األدبي لغير الناطقين بالعربية، صفحة 607-601. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت محمود درويش، الأعمال الأولى 1، صفحة 106.