المدرسةُ الاتباعية في الشِّعرِ العربيِّ المعاصرِ

في النِّصفِ الثَّاني من القرنِ التَّاسعَ عشرَ، ظهرتْ المدرسة الكلاسيكيَّة في الشِّعر العربيّ، والّتي يُطلقُ عليها أيضًا (المدرسة الاتباعية)، على يدِ رائدِ المدرسةِ الاتباعية محمود سامي البارودي، والّذي استطاعَ أنْ ينتقلَ بالشِّعرِ العربيِّ من قاعِ الضَّعفِ في العصرِ العثمانيّ، وبدايةِ العصرِ الحديثِ، فبثَّ فيه من روحهِ، وردَّ لهُ الحياةَ والقوَّة، ممَّا جعل شعراء آخرين يتّبعونه في هذه الحركة، ويساعدونَ على إحياءِ الشِّعرِ العربيِّ، والنُّهوضِ به، ومن بينهم: إبراهيم اليازجي، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وأحمد محرم، وعبد المطّلب، وعلي الجارم، ومعروف الرّصافي، وبشارة الخوري. وقد كان منهجهم قائمًا على محاكاة الشّعراء القدامى في شعرهم.[١]


محاكاة الشُّعراء الاتباعيُّونَ للقدامى

سعى الشُّعراء الاتباعيُّونَ إلى محاكاة القدامى في شعرهم، للمحافظةِ على روحِ الشِّعر العربيّ، وحفظهِ والنّهوضِ به، وقد اقترنتْ هذه المحاولات بمرحلةٍ من التّذمّر الاجتماعيّ، والتّململ السّياسيّ، واستيقاظ الشّعور القوميّ، وظهور قوى جديدة مهّدت لزوال الاستبداد، مما جعل الاتباعيّون ينهجون نهج الشّعراء القدامى، ويسيرونَ على أسلوبهم وخصائصهم، بمساعدة رائد المدرسة الاتباعية محمود سامي الباروديّ، والّذي كان منهجه قائمًا على:[٢]

  • أوَّلًا: الإعراضِ عن كلّ ما جعل الشّعر جثّةً هامدةً أضعفها التّقليد والمحسّنات، ففتحوا للشّعر مجالاتٍ جديدة بما قالوا في الشّعر السّياسيّ، والاجتماعيّ، والتّاريخيّ، والقصصيّ، وشعر الأطفال.
  • ثانيًا: الاتّجاه إلى النّماذج الشّعريّة الشّامخة في عصور الازدهار، والزّهاء.
  • ثالثًا: المحافظة على البحر الواحد في القصيدة، والقافية الموحّدة، والالتزام بوحدة البيت الشّعريّ.
  • رابعًا: تعدد الموضوعات في القصيدة الواحدة، والّتي غالبًا ما تبدأ بالنّسيب.
  • خامسًا: السّير على نهج القدامى في معانيهم، وصورهم، وألفاظهم، وتراكيبهم، ونسجهم، بمحاكاتهم في المنهج والصّياغة.
  • سادسًا: توظيف الألفاظ الجزلة، والأسلوب الرّصين، ممّا جعل اللغة الشّعرية تعود إلى حركتها، وحيويتها.
  • سابعًا: السَّير على خطا الكثير من فحول الشّعراء العبّاسيّين، فكثرت المعارضات لقصائدهم، فقد عارض الباروديّ معلّقة عنترة، وداليَّة النّابغة، ورائيَّة أبي نوّاس، وكثيرًا من قصائد البحتريّ، وأبي فراس، والشّريف الرّضيّ، وكثيرًا من قصائد المتنبّي، وأشهرها التي قالها في مدح كافور، والّتي مطلعها:


أودُّ من الأيَّامِ ما لا تودّه وأشكو إليها بيننا وهي جنده.


  • ثامنًا: التّعبير عن التّجارب الخاصّة في أشعارهم، بالعودة إلى أنفسهم، فكان شعرهم مرآة لأحداث عصرهم، وقضايا وطنهم، ومشكلاته السّياسيّة والاجتماعيّة.
  • تاسعًا: الارتباط بقضايا المجتمع السّياسيّة، والوطنيّة، والاجتماعيّة.
  • عاشرًا: الاعتزاز بعبقريّاتهم الشّعريّة، وهذا ما نراه في شعر البارودي، في قوله:[٢]


وما ضرَّني أنّي تأخّرتُ عنهم وفضلي بين العالمين شهير فيا ربّما أخلى من السّبق أوّل وبزّ الجياد السّابقات أخيـــر



مظاهرُ محاكاة القدامى عند الاتباعيّين

حاكى الاتباعيُّونَ القدامى في شعرهم في الشّكل والمضمون، وتمثّلت هذه المحاكاة عندهم كالآتي:[٣]


التّقليد الأسلوبيّ

ويتجلّى هذا التّقليدُ في شعر رائد المدرسة الاتباعية محمود سامي الباروديّ، والّذي يتميّز بتملُّكه لناصية اللّغة، يتصرَّف بها كالخبير العليم بأسرارها، فقد كانت دراسته للأدب، ودواوين الشّعر، وطرائف القصص، وأخبار العرب، وقبائلهم سببًا في تنمية ملكته الشّعريّة، ونلمح أثر الكلمات، والعبارات، والمعارضات، والتّشبيهات من الشّعر الجاهليّ في شعره، من ناحيتين اثنتين، هما:

  • أوَّلًا: مظاهر الصّياغة اللّفظيّة القديمة، حيثُ استخدم ألفاظ وتراكيب امرئ القيس، واعتمد وزنه العروضيّ أيضًا، ويظهر هذا في قوله:


بَكَى صاحِبِي لَمَّا رَأَى الْحَرْبَ أَقْبَلَتْ بأبنائها، واليــومُ أغبـــرُ كالـــــحُ فقلــتُ تعلَّـــم أنَّمـــا هـــي خطَّـــــــة يَطُولُ بها مَجْدٌ، وتُخْشَى فَضَائِحُ


وصياغته هذه مستمدَّة من قول امرئ القيس:


‏بكى صاحبى لمّا رأى الدّرب دونه وأيقن أنّا لاحقان بقيصـــــرا فقلــتُ لـه: لا تبــك عينـــك إنّـمـــا نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

  • ثانيًا: قضايا بلاغيّة قديمة، فقد أكثر البارودي في ديوانه من استخدام الصّور البيانيّة والمجازيّة المستمدَّة من الكنايات، والتّشبيه، والاستعارات، والمجاز، كما أكثر من استخدام المحسّنات اللّفظيّة من طباقٍ، وجناسٍ، ومقابلةٍ، وتوريةٍ، وتصريعٍ، وهو بذلك جرى مجرى مذهب أبي تمّام، باعتماده الصّنعة اللّفظيّة والعقليّة، ويظهر ذلك في قوله:[٣]


وصالك لي هجر، وهجرك لي وصلٌ فزدْني صدودًا ما استطعتَ ولا تألو إذا كان قربي منــك بعــدًا عـن المنى فـلا حمـــت اللقـيـا ولا اجتمع الشّمل



التَّقليدُ المعنويّ

ويتمثّل في الأغراض الشّعريّة التّقليديّة، الّتي لم يخرج البارودي عنها، فقد نظم في الموضوعات الآتية: الوصف، والمدح، والفخر، والرثاء، والغزل، والحكمة، والزّهد، والهجاء، وقد كان يفتتح قصائده بالوقوف على الأطلال، وبكاء الدّمن، والآثار، ثمّ ينتقل إلى غرضٍ آخر وهو الغزل، أو الوصف، ثمّ ينتهي بغرضه الأساسيّ العامّ، كما كان شعره لا يخلو من الفخر بالنّفس.[٣]


مثال قصيدة "رضيتُ بما لا أودّهُ" للبارودي يحاكي فيها المتنبي

نظم الشّاعر محمود البارودي قصيدته "رضيتُ بما لا أودّهُ" فاخرًا، ومعرضًا بالمظالم على عهد الحكومة الاستبداديّة، وقد حاكى فيها قصيدة المتنبّي الّتي مطلعها:[٤]


أودُّ من الأيّام ما لا تودّه وأشكو إليها بيننا وهي جنده.

وقد بلغتْ قصيدة البارودي 56 بيتًا، عالج فيها خمس موضوعات، وهي: شكوى الحبّ، شكوى الشّيب، شكوى الأصحاب، شكوى الزّمان، والفخر[٥]، نورد منها الأبيات الآتية:[٦]


رَضِيتُ مِنَ الدُّنْيَـــــــا بِمَـــــا لا أَوَدُّهُ وَأَيُّ امْرِئٍ يَقْـــــوَى عَلَى الدَّهْـــرِ زَنْــــدُهُ أَحَاوِلُ وَصْلاً والصُّدُودُ خَصِيمُـــــــهُ وَأَبْغِـــــي وفَــــاءً والطَّبِيــــعَـــةُ ضِـــــدُّهُ حَسِبْتُ الْهَوَى سَهْلاً وَلَــــمْ أَدْرِ أَنَّــــهُ أَخُو غَـــــدَرَاتٍ يَتْبَـــــــعُ الْهَــزْلَ جِـــــدُّهُ


تَخِفُّ لَهُ الأَحْــلامُ وَهْـــيَ رَزِيْنَـــــــةٌ وَيَعْنُـــو لَـــهُ مِـــنْ كُــــلِّ صَعْـــبٍ أَشَـــدُّهُ وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ الْفَتَى وَهْوَ عَاقِــــــــلٌ يُطِيــــعُ الْهَــــوَى فِيمَـــا يُنَــافِيـــهِ رُشْــــدُهُ يَفِرُّ مِنَ السُّلْوَانِ وَهْوَ يُرِيحُــــــــــــهُ وَيَــأْوِي إِلى الأَشْجَــــــــانِ وَهْـــيَ تَكـــــدُّهُ وَمَا الْحُبُّ إِلَّا حاكِمٌ غَيْرُ عَـــــــــادِلٍ إِذا رامَ أَمْــــــراً لَـــم يَجِــــدْ مَــنْ يَصُــــــدُّهُ لَهُ مِنْ لَفِيفِ الْغِيدِ جَيْشُ مَلاحَــــــــةٍ تُغِيـــــــرُ عَلــى مَثْــوى الضَّمــائِـــرِ جُنْـــدُهُ ذَوَابِـــلُــــهُ قَامَــاتُــــهُ وسُيُــــوفُــــهُ لِحَـــــاظُ الْعَــــذَارَى والْقَـــلائِـــدُ سَـــــــرْدُهُ إِذَا مَاجَ بِالْهِيفِ الْحِسَانِ تَأَرَّجَــــــتْ مَسَالِكُــــــــــهُ واشْـــتَـــقَّ فِــي الْجَـــوِّ نَـــدُّهُ فَأَيُّ فُــــــؤادٍ لا تَــذُوبُ حَصــاتُـــهُ غَـرَامــاً وَطَـــرْفٍ لَيْـــسَ يُقْذِيـــهِ سُهْـــــدُهُ بَلَوْتُ الْهَوَى حَتَّى اعْتَرَفْتُ بِكُلِّ مَا جَهِلْتُ فَلا يَغْــــرُرْكَ فالصَّـــابُ شَهْـــــــدُهُ ظَلُومٌ لَهُ فـي كُــلِّ حَـــيٍّ جَرِيـــرَةٌ يَضِــجُّ لَهَـــا غَـــوْرُ الْفَضَـــاءِ وَنَجْــــــــدُهُ إِذَا احْتَــلَّ قَلْبـــاً مُطْمَئِنَّاً تَحَرَّكَـــتْ وَسَاوِسُـــهُ في الصَّـــدْرِ واخْتَــــلَّ وَكْـــدُهُ فَإِنْ كُنْــتَ ذَا لُــبٍّ فَــلا تَقْرَبَنَّــــــهُ فَغَيْـــرُ بَعـــيـــدٍ أَنْ يُــــصِــيبَــــكَ حَــــــدُّهُ وَقَدْ كُنْتَ أَوْلَى بِالنَّصِيحَةِ لَوْ صَغَا فُـــؤَادِي وَلَكِــــنْ خَـــــالَفَ الْحَــزْمَ قَصْــدُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَــرْءِ عَقْـــلٌ يَقُـــودُهُ فَيُوشِــــــكُ أَنْ يَلْقَـــى حُسَـــامــــاً يَقُـــــــدُّهُ لَعَمْرِي لَقَدْ وَلَّى الشَّبَابُ وَحَلَّ بِي مِــنَ الشَّيْــــبِ خَطْـــبٌ لا يُطَاـــقُ مَــــرَدُّهُ


المراجع

  1. نجم الدّين الحاجّ عبد الصف، الشعر العربي والإتجاهات الجديدة في عصر النهضة الأدبية، صفحة 11. بتصرّف.
  2. ^ أ ب إسماعيل الصّلخدي، ﻓﻲ اﻟﻤﺬاهﺐ اﻷدﺑﻴّﺔ واﻟﻔﻨﻮن اﻷدﺑﻴّﺔ.pdf المرشد في المذاهب الأدبيّة والفنون الأدبيّة، صفحة 3. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ت الدّكتور نسيب نشاوي، مدخل إلى دراسة المذاهب الأدبيّة في الشّعر العربيّ المعاصر، صفحة 52-55. بتصرّف.
  4. حسين ميرزائي نيا، معارضات البارودي بين التّقليد والتّجديد، صفحة 167. بتصرّف.
  5. حسين ميرزائي نيا، معارضات البارودي بين التّقليد والتّجديد، صفحة 167. بتصرّف.
  6. تحقيق وضبط وشرح علي الجارم، محمّد شفيق معروف، ديوان البارودي، صفحة 123-124.