الشِّعرُ في العصرِ الجاهليِّ

عُرِف الشِّعرُ في العصرِ الجاهليِّ بنضوجهِ، وتكاملِ موضوعاتهِ الشِّعريَّةِ، من هجاءٍ، ومدحٍ للملوك، وغزلٍ، وفخرٍ، علمًا أنَّ الأدبَ في العصرِ الجاهليِّ كان مقتصرًا على الفترةِ الّتي كانتْ تسبقُ الإسلامَ بقرابةِ قرنينِ تقريبًا، وانتهى بالفترةِ الّتي ظهرَ فيها الإسلامُ؛ إذْ إنّ مظاهرَ الجاهليَّة استمرّت حتّى بعد مبعث النّبيّ محمّد عليه الصّلاة والسّلام، لبعض الزّمن. ولا نقصدُ بالجاهليّة ما هو منافٍ للعلم والمعرفة، بل نقصدُ بها الطّيش، والسّفاهة بمظاهرها القائمة على القتلِ، والعداوةِ، والهمجيَّةِ، وعبادة الأصنام، واستباحة الزّنا، والضّلالة، وانتشار الحروبِ، والقبليّة، والفرقة.[١]


التجديد في الشِّعرِ الجاهليِّ

لقد تطوَّرَ مفهومُ الأدب بتطوُّر حياةِ الأمَّةِ العربيَّةِ، وانتقالِها منَ البداوةِ إلى الحضارةِ، حتَّى استقرَّ بنا الحالُ إلى التَّعريفِ الحاليِّ، والَّذي يعني الكلامَ البلاغيَّ الإنشائيَّ، الَّذي يؤثِّرُ في عواطفِ المتلقّي، بغضِّ النَّظرِ عنْ كونِه شعرًا أم نثرًا. والواقعُ أنَّ مصطلحَ "الأدبَ" لم يُذكرْ في العصرِ الجاهليّ بمعناه الّذي أجملْناه، ولم يجرِ هذا اللّفظُ على ألسنةِ الشُّعراءِ، ولكنَّنا وجدنا لفظ "الآدب"، وهو لفظ يدلّ في معناه على كلّ داعٍ إلى الطَّعام، وهذا ما جاءَ على لسانِ طرفةَ بنِ العبدِ، حينما قالَ:[٢]


نحنُ في المَشتاةِ نَدعو الجَفَلَى لا ترَى الآدبَ فينا يَنْتَقِرُ



وقدِ استُخدِمَ لفظُ "الأدبِ" بمعنى يدلُّ على التَّهذيبِ والخُلُق، وذلك على لسانِ محمَّدٍ، عليه الصَّلاةُ والسِّلام، في الحديثِ النَّبويِّ: "أدَّبني ربِّي فأحسنَ تأديبي". وقد ذكرَ (نالينو) أنَّ هذا اللّفظ استُخدمَ في الجاهليَّةِ بمعنى السَّنَّةِ، وسيرةِ الأدباء، على أنَّها مقلوبة اللفظِ "دأب"، الّتي جُمعتْ على آداب، كمثل جمع بئرٍ إلى آبار، ورأيٍ على آراء.[٢]


لقد بقيت هذه اللّفظة "الأدب" مرتبطةً بمفهومِ تهذيبِ النَّفسِ والأخلاقِ، إلى أواخر العصرِ الأمويِِّ، وأوائلِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ، فأصبحتْ مقترنةً بتعليمِ الأخبارِ، وروايةِ الشِّعرِ، والتَّبصُّرِ بأصولِ السُّنَنِ، وتأويلِ القرآنِ، ثمّ انحرفتْ هذه اللّفظة إلى استعمالٍ آخرَ؛ إذْ أصبحتْ تدلُّ على ما أنتجتْه قرائحُ المتكلِّمينَ بهذه اللّغة منْ الشِّعرِ والنَّثرِ والحكمةِ والمَثل. أمّا كلمة "الأديب" فلم يُعثر على نصٍّ صحيحٍ ذُكرتْ فيه هذه الكلمة قبل الإسلام، وقبلَ أمثالِ الإسلاميّانِ، مُزاحم العقيلي، وسالم بن وابصة الأسديّ؛ حيث رُويَ عن سالم بن وابصة قوله في قصيدته:[٣]


إذا شئْتَ أنْ تُدعى كريمًا مكرَّمًا أديبًا ظريفًا عاقلًا ماجدًا حُرًّا


كمَا روَى صاحبُ اللّسانِ، في مادَّة "أدب" لمُزاحم العقيلي، في وصف إبله:[٣]


وهنَّ يُصرِّفْنَ النَّوَى بينَ عالجٍ وَنَجْرَانَ تَصْريفَ الأديبِ المُذَلَّلِ


ولعلَّنا نلاحظُ أنّ لفظَ الأديبِ في قولِ سالم بن وابصة كان في وصف الإنسان، بينما كان في وصف البعير في قول مزاحم العقيليّ، ولكنّ كلا الاستعمالينِ كما لاحظنا قد ارتبطا بمفهومِ التّهذيب والأخلاق. ومن الجديرِ بالذّكرِ أنّ مفهوم الأدبِ بقيَ محافظًا على معناه هذا، إلى أن انتقل إلى معنى الأخذ من كلِّ فنٍّ بطرفٍ.[٣]


مظاهر التّجديد في شِعرِ العصرِ الجاهليِّ

ظهرَ وعيُ الشُّعراءِ منذُ القدمِ بضرورةِ التَّجديدِ في الشِّعرِ والإبداع، رغم كلّ المحاولاتِ الّتي كانتْ تسعى إلى وضع الشّعر في قوالبَ جاهزة من المحافظينَ، إلّا أنّ محاولاتهم بات بالفشل، فقد شهد تاريخُ الشّعرِ العربيّ ما بعد العصر الجاهلي محاولاتٍ عديدة للانفلات من تلك القيود، تمثّلتْ مظاهرها فيما يأتي:[٤]

  • أوّلًا: محاولةُ العرب أنْ يجعلوا للشّعر نظامًا موسيقيًّا محدَّدًا، فقد اتّخذوا منه أداةً للتّعبير عن مشاعرهم، بالكشف عن خوالج أنفسهم، ومباعث الألم والفرح.
  • ثانيًا: التّجديد في عمود الشّعر، وخاصةً عند انتقال العرب إلى حياة الحضارة والتّرف، رغم المحاولات العديدة من المحافظين بالحيلولة دون هذا التّغيير.
  • ثالثًا: التّجديد في موضوعات الشّعر العربيّ، وخاصّة عند تطوّر البيئة العربيّة، وانفتاحها في العصر العبّاسيّ، حيث تعدّدت وسائل التّرف، وكثرت مجالس اللهو والطّرب.
  • رابعًا: التّجديد في ثقافة الشّاعر العربيّ، بسبب اختلاط العرب بالثّقافات المختلفة؛ كالفارسيّة، والهنديّة، واليونانيّة، فظهرت ملامح هذا التّغيير في الشّعر.
  • خامسًا: الثّورة على قواعد الشّعر العربيّ، الّتي وضعها ابن قتيبة لنظم الشّعر، وأوّل مظاهر هذه الثّورة ظهر على يد الشّاعر أبي نوّاس، الّذي هوجم في البداية، وتعرّض للكثير من الاتّهامات والانتقادات إلّا أنّ إصراره على التّجديد لاقى بعد ذلك رواجًا وإعجابًا من الشّعراء، ومن ذلك قوله:[٤]


قل لمن يبكي على رسم درسٍ واقفًا ما ضرّ لو كان جلس

  • سادسًا: الخروج عن نظام القافية الواحدة، فموضوعاتهم الجديدة لا تحتمل قيدها، فظهرت المزدوجات على يد قائد المحدثين: بشّار بن برد، بحدّ وصف النّقاد له، فقد قال أدونيس فيه: "إنّه أعطى اللّغة أبعادًا مجازيّة وتصويريّة غير مألوفة".
  • سابعًا: التّجديد في معاني القدماء، مثل ما ظهر من أبي تمّام، الّذي عالج في أشعاره قضايا جديدة بعيدة عن معطيات الحواسّ المباشرة، فتميّز شعره بنوع من الغموض.
  • ثامنًا: استعمال ألفاظ غريبة أو أعجميّة، ممّا أضاف الغموض في الأشعار، وجعل القارئ يبحث في معانيها ودلالاتها المختلفة بحسب السّياق.
  • تاسعًا: استخراج أوزان جديدة، بالمزج بين الأوزان المختلفة، فظهرت الموشّحات الّتي كان لها أوزان خاصّة، فكان الموشّح أوّل ثورة حقيقيّة في الشّعر العربيّ.
  • عاشرًا: استخدام البحور الخفيفة الّتي تعكس رهافة الحضارة العبّاسيّة، وحاجتها للغناء والتّرف، وظهور تجديدات في إطار الصّيغ الشّعبيّة، أو المعممة كالمواليا، والكان كان، والقوما، والزّجل.

المراجع

  1. محمّد هاشم عطيَّة، الأدب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي، صفحة 6. بتصرّف.
  2. ^ أ ب شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي، صفحة 7-8. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ت محمّد هاشم عطيّة، الأدب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي، صفحة 4-5. بتصرّف.
  4. ^ أ ب دهنون آمال، تحوُّلات القصيدة العربيّة، صفحة 2-5. بتصرّف.