قصيدة ميلاد شاعر

قصيدة للشاعر المصري علي محمود طه المهندس ولد في المنصورة سنة 1902م لأسرةٍ متوسطة على حظٍ من الثقافة، درس في الكتّاب، وتخرج من المدرسة الهندسة التطبيقية، وخدم في الأعمال الحكوميّة إلى أن أصبح وكيلًا لدار الكتب المصريّة، وله من الشّعر عدّة دواوين طُبع منها: ديوان (الملّاح التائه)، وديوان (ليالي الملّاح التائه)، ديوان (أرواح شاردة)، وغيرها، وفي شعره كان يجمع بين التّقليد الشّعري العربي، وبين التيّارات المستحدثة والمستوحاة من أدب الغرب، توفي بالقاهر سنة 1949م، ودُفن في المنصورة.[١]


مناسبة القصيدة

مناسبة القصيدة هي ميلاد شاعر، وفيها يتحدث الشاعر علي محمود طه عن هذا الشاعر، واحتفال الكون بهذا الشّاعر العبقري.


شرح أبيات القصيدة

بهذه القصيدة نحن نرى صورة الشّاعر الّذي هبط كضوء الشّعاع، ويحمل عصا ساحر، وقلب نبي، فيه لمحة من نور فكأنهُ ملاك بهيئة بشر، ألهمَ كلٌ من لسانه، وقلبه حكمةً ونورًا لكلّ المعاني الخفيّة؛ إذ لديه من سحر البيان، ما يروي به العقول، ويسحر الألباب، وبميلاد هذا الشّاعر يحتفل الكون، وكلُّ الكائنات، فإذا بها تظهر الصورة الرومانسيّة المفعمة بالخيال المجنّح، والعاطفة المتأججة، والهواجس المدوّمة، التي يرسمها علي محمود طه لنموذج الشّاعر كما يراه، ويرسم لميلاده عرسًا بهيّا سنيًّا يشارك فيه الكون، ويحتفي بميلاد شاعر.


وعلي محمود طه يتفنن بإبراز جمال الصور الفنية، وتشخيص الأشياء فهو يشخص نور المحيّا فكأنه شخص يسبي الكائنات بنور محياه، ويتنوع أسلوبه بين الخيال حينًا، والتصوير الواقعي للطبيعة حينًا أخرى، فهو يرى بميلاد الشاعر بشرى للكون، ومهرجانًا للطبيعة، وبهجة للكائنات، وتتدفق شاعرية علي طه، وتنهمر ألفاظه، ومعانيه فهو المغرم بالحسن المفتون بسحر الكلمات وجمال اللفظ، حتّى كأنه يتشرب الطبيعة لتتكشف لنا في مقطوعات القصيدة عن ألوان مفاتنها احتفاءً بميلاد الشاعر، فنراه يتحسس الوجود من حوله بكلِّ قسماته وتضاريسه، فنور الفجر ميلاد شاعر، وضياء الصّباح ميلاد شاعر، وسحر المساء ميلاد شاعر، وبهاء الليل ميلاد شاعر، فقد تزينت واهتزت الأرض جمالًا، وابتهجت السّماء بالكواكب والنّجوم ضياءً، وانساب العطر والشّذى، وتجلّى المساء بنور القمر، وبدت السّماء تطفو، والنّجوم السّابحات في الماءِ كأنها قبلاتٌ يهفو لها ثغر حالم، وانبلج فجر الصباح وضّاء بميلاد الشّاعر، وهو ينهال علينا بفنه وإبداعه في تجسيد الطبيعة، وتصويرها، وهي تحتفل معه بإيقاعٍ شذى نديّ، ليصل إلى ختام القصيدة ليطلق لنا وجوده، وميلاد شاعر، وليطلق عنان قيثارة الشدو والغناء، جاعلاً من جمال الطّبيعة، والحبّ، والغناء شعارًا، ومنهلًا لشعره، وداعيًا الخالقَ أن يبارك هذا الكون والوجود. فيقول علي محمود طه واصفًا ذلك:[٢]


هَبَطَ الأرضَ كالشعاعِ السنيِّ بعصا ساحرٍ وقلْبِ نبيِّ لمحةٌ من أشعَّةِ الرُّوحِ، حلَّتْ في تجاليدِ هيكلٍ بشريِّ ألهمتْ أصغريْهِ من عالمِ الحكـ ـمةِ والنُّورِ كلَّ معنًى سريِّ وَحَبَتْهُ البيانَ رِيًّا من السِّحـ ـرِ به للعقول أعذبُ ريِّ حينما شارفَتْ به أفقَ الأر ضِ زَها الكونُ بالوليد الصبيِّ وسبَى الكائناتِ نور محيَّا ضاحكِ البشرِ عن فؤادٍ رضيِّ صُوَرُ الحسن حُوَّمٌ حول مهدٍ حُفَّ بالوردِ والعَمَارِ الزَّكيِّ وعلى ثغرِهِ يُضيءُ ابتسامٌ رَفَّ نورًا بأرجوانٍ نَدِيِّ وعلى راحتيهِ ريحانة تندَ ى، وقيثارةٌ بلحن شجيِّ فَحَنَت فوق مهده تتملَّى فجرَ ميلادِ ذلك العبقريِّ وتساءَلنَ حيرةً: مَلَكٌ جَا ءَ إلينا في صورة الإنسي؟ من تُرَى ذلك الوليدُ الذي هـ ـشَّ له الكونُ من جمادٍ وَحَي؟ من تُراه؟ فَرَنَّ صوتٌ هَتُوفٌ مِن وراءِ الحياةِ شَاجِي الدَّوِي!


إِنَّ ما تشهدون ميلادُ شاعر


ثم يقول:[٣]


كان وجهُ الثَّرَى كوجهِ الماءِ رائقَ الحسنِ مستفيضَ الضياءِ حين ولَّى الدُّجَى وأَقْبَلَ فَجْرٌ وَاضحُ النُّورِ مشرقُ اللَّأْلَاءِ بَهَجٌ في السماءِ والأرض يُهدي من غريب الخيالِ والإيحاءِ صفَّقَتْ عنده الخمائلُ نَشْوَى وشدا الطيرُ بين عودٍ وناءِ مَظْهَرٌ يبهرُ العيونَ، وسِحْرٌ هَزَّ قلبَ الطبيعةِ الْعَذْرَاءِ وجلا من بدائع الفنِّ رَوْضًا نَمَّقَتْهُ أناملُ الْإِغْرَاءِ ما الربيعُ الصَّنَاعُ أَوْفَى بَنَانًا مِنْهُ فِي دِقَّةِ وحُسنِ أَدَاءِ نَسَقَ الأرضَ زينةً وجلاها قَسَمَاتٍ من وجههِ الوضَّاءِ ربوةٌ عند جدولٍ، عند رَوْضٍ عند غَيْضٍ، وصَخْرَةٍ عند مَاءِ فَزَهَا الفجرَ ما بَدَا، وتجلَّى وازْدَهَى بالوُجودِ أيَّ ازدهاءِ قال: لم تُبْدِ لي الطبيعةُ يومًا حين أقبلتُ مثلَ هذا الرُّوَاءِ



لَا، ولم يَسْرِ مِلْءَ عيني وأذْني مثلُ هذا السَّنَا وهذا الغناءِ أيُّ بُشرى لها تَجَمَّلَتِ الأرْ ضُ وزافتْ في فاتناتِ الْمَرَائِي؟ علَّها نُبِّئَتْ من الغيب أمرًا حَمَلَتْهُ لها نجومُ المساءِ قال: ماذا أرى؟ فردَّدَ صوتٌ كصدى الوحي في ضميرِ السماءِ


إنَّ هذا يا فجرُ، ميلادُ شاعرْ


ثم يقول:[٣]


كانَ فَجْرٌ، وكَانَ ثَمَّ صَبَاح فيه للحسنِ غُدوةٌ ورَوَاحُ وَهُنا جَدْوَلٌ على صفحتيهِ يرقصُ الظِّلُّ والسَّنَا الوضَّاحُ وعلى حافتيه قام يغنيـ ـنَا من الطير هاتفٌ صدَّاحُ وفَرَاشٌ لَهُ من الزَّهْرِ ألوا نٌ، ومن ريِّقِ الشعاعِ جَنَاحُ دَفَّ في نشوةٍ يُنَاديه نُوَّا رٌ وعطرٌ من الثرى فوَّاحُ وهُنَا رَبْوَةٌ تَلَأْلَأُ فيها خضرةُ العُشب والنَّدى اللَّمَّاحُ ونسيمٌ كأنَّه النَّفَسُ الحَا ئرُ تُصغى لهمسِه الْأَدْوَاحُ مثلَ هذا الصباحِ لم يلد الشر قُ ولم تُنجِبِ الشموسُ الوِضاحُ لكأنَّا بالكونِ أعلام ميلا دٍ وعرسٌ قامتْ له الأفراحُ أيَّ حسنٍ نرى؟ فردَّدَ صوتٌ شبهَ نجوى تُسرها أرواحُ


إنَّ هذا الصباحَ ميلادُ شاعرْ


ثم يقول:[٣]


وتجلَّى المساءُ في ضوءِ بدرٍ وشُفُوفٍ غُرِّ الغَلَائلِ حُمْرِ وسماءٍ تطفو وترسبُ فيها الـ ـسُّحْبُ كالرغوِ فوق أمواج بحرِ صورُ جمَّةُ المفاتنِ شتَّى كرؤى الحلمِ أو سوانح فكر وعلى شاطئ الغدير ورودٌ أغمضت عينها لمطلع فجر وكأنَّ النجومَ تسبَحُ فيهِ قبلاتٌ هَفَتْ بحالِم ثغر وكأنَّ الوجودَ بحرٌ من النٌّو ر على أُفقهِ الملائكُ تسري هتفتْ نجمةٌ: أرى الكونَ تبدو في أساريرِهِ مخايلُ بِشرِ وأرى ذلك المساءَ يثير السحـ ـرَ والشجوَ ملءَ عيني وصدري أتُرانَا بليلةِ الوحيِ والتَّنـ ـزيلِ؟ أم ليلةِ الهوى والشِّعرِ؟ ما لهذا المساء يَشْغَفُنَا حـ ـبًّا ويُوري بنا الفتونَ ويُغري أيُّ سِرٍّ تُرى؟ فرنَّ هتافٌ بنجِيٍّ من الصدى مستسرِّ


إنَّ هذا المساءَ ميلادُ شاعرْ


ثم يقول: [٣]


قمرٌ مشرقٌ يزيدُ جمالَا كلما جدَّ في السماءِ انتقالَا وسكونٌ يرقى الفضاءَ، جناحا هُ على الأرض يضفوانِ جلالَا هذه ليلةٌ يشفُّ بها الحسـ ـن ويهفو بها الضياءُ اختيالَا جَوُّها عاطرُ النسيم، يثير الـ ـشجوَ والشعرَ، والهوى، والخيالَا وتجلَّتْ له الحياةُ، وما فيـ ـها فراعَتْهُ فتنةً وجمالَا فجثا ضارعًا: أرى الكون ربِّي غير ما كانَ صورةً ومِثَالَا لم يكنْ يعرِفُ الصبابةَ قلبِي أو تَعِي الأذنُ للغرامِ مقالَا أَتُراها تَغَيَّرَتْ هذه الأرْ ضُ أم الكونُ في خياليَ حالَا رَبِّ ماذا أرى؟ فرنَّ هتافٌ مُسْتَسَرُّ الصَّدَى يُجيب السؤالا


إنَّ هذا يا ليلُ، ميلادُ شاعرْ


ويقول: [٣]


وَتَجَلَّى الصَّدى الحبيبُ الساحرْ في محيطٍ من الأشعةِ غامرْ وسكونٍ يبثُّ في الكون روعًا وقفتْ عنده الليالي الدوائرْ واستكانَ الوجودُ، والتفتَ الدهـ ـرُ وأصغتْ إلى صداه المقادرْ لم يَبِنْ صورةً، ولكن رأتهُ بعيونِ الخيالِ مِنَّا البصائرْ قال: يا شاعري الوليدَ سلامًا هزَّتِ الأرضَ، يوم جِئْتَ، البشائرْ فإليك الحياةَ شتَّى المعاني وإليكَ الوجودَ جَمَّ المظاهرْ فلكم جاءَ بالخيال نَبِيٌّ ولكم جُنَّ بالحقيقة شاعرْ إنما يسعدُ الوجودُ وتشقو ن، وإنِّي لكم مثيبٌ وشاكرْ



أيها الشاعرُ اعتمدْ قيثارَكْ واعزفِ الآنَ مُنْشِدًا أشعارَكْ واجعلِ الحُبَّ والجمالَ شعارَكْ وادْعُ ربًّا دعا الوجودَ وبارَكْ


فزها وازدهى بميلاد شاعرْ


سمات شعر علي محمود طه في القصيدة

فيما يأتي سمات شعر علي محمود طه في قصيدة ميلاد شاعر:[٤]

  • انسكاب جمالي يترقرق ترق الحلم في النّفس المطمئنّة، وهو ما كان ظاهرًا في مجمل القصيدة.
  • انسيابٌ سيّالٌ يتغلغل في أعماق الكيان الإنساني، والنفس البشريّة.
  • تلاحق الصّور الجميلة كأنّها خيّالة سينمائيّة، حافلة بالابتكار في مجمل القصيدة.
  • موسيقى تتناغم ألفاظها، وتتجاوب أصداؤها ساحرة باهرة.
  • تجسيم، وتشخيص لا يخلوان من ثقل الإكثار، والمغالاة.
  • جزالة تحفظ للغة فصاحتها، ورونقها.
  • انفتاح على الأدب العالمي في أصالةٍ ومقدرة.
  • جمع بين الكلاسيكيّة العربية التّقليدية، والرومنسيّة الحديثة المتطورة.
  • رقّة نورانيّة تذوب في النّفس، وتُليِّنُ كلَّ شيء.


ولقراءة تحليل المزيد من القصائد: قصيدة الكوليرا، قصيدة عبرات شاعر.

المراجع

  1. حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي الحديث، صفحة 626-627. بتصرّف.
  2. علي محمود طه، ديوان علي محمود طه، صفحة 17.
  3. ^ أ ب ت ث ج علي محمود طه، ديوان علي محمود طه، صفحة 18.
  4. حنا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي الحديث، صفحة 629-630.