الأندلسُ في القرونِ الوسطى
عُرِفتْ بلاد الأندلس في القرون الوسطى، بتميُّزها ثقافيًّا واجتماعيًّا، فضلًا عن كونها أرقى البلدان الإسلاميَّة، كما عُرِفتْ أيضًا بأنَّها مركز الاتّصال بين الشَّرق الإسلاميّ والغرب المسيحيِّ، ممَّا أسهمَ في انتقال معظمِ معالمِ ثقافة العرب إلى أوروبا، من آدابٍ، وفلسفة، وعلومٍ مختلفة. وقد ساعدتْ الظُّروف المتعاقبة والأحداث المختلفة، والَّتي مرَّتْ بها الأندلسُ على إثراء جانبها الأدبيّ؛ فقد كان للأدب الأندلسيّ الصّدى الواسع في تاريخ الأدب المشرق، حتّى عصر الإمارة. إلى أنْ ظهرتْ الموشّحات الأندلسيّة والأزجال، في العصر الأمويِّ، بعد أنْ حقّق الأدب الأندلسيّ أكبر استجابةً للدَّواعي البيئيَّة والاجتماعيَّة، ممّا أضفى عليه طابع المحلِّيَّة.[١]
الموشَّحات الأندلسيَّة
لقد جاء في لسان العرب لابن منظور: "الوشاح حلي النّساء، كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان، مخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر، توشّح المرأة به"، وجاء في القاموس المحيط للفيروز آبادي، أنّ الوشاح هو: "كرسان من لؤلؤ وجوهر منظومان، يخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر، وهو أديم عريض يرصّع بالجوهر، تشدّه المرأة بين عاتقها وكشحها"، وحسب تعريف البلاغيّين، فالتّوشيح هو:"أن يكون أوّل الكلام دالًّا على آخره وصدره يشهد بعجزه".[٢]
ممّا يعني اختلاف علماء اللُّغة القُدامى على سبب تسمية الموشَّحات بهذا الاسم، الّتي اشتقّت للدّلالة على المعنى العامّ للتّزيين، باعتماد وشاح أو قلادة مرصّعة أم غير ذلك، غير أنّ هذه الكلمة استُعملتْ في معظم الأحيان للتّعبير عن بعض المعاني البلاغيَّة. وقد وردَ في كتاب الذّخيرة، حول الموشّحات: "أوّل من صنع أوزان هذه الموشّحات بأفقنا واخترع طريقها -فيما بلغني- محمّد بن محمود القبريّ الضَّرير، وكان يصنعها على أشطار الأشعار، غير أنَّ أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة، يأخذ اللّفظ العاميّ أو العجميّ، ويسمّيه المركز، ويضع عليه الموشّحة دون تضمين فيها ولا أغصان." وقد ورد في مقدّمة ابن خلدون، قوله:" وأمَّا أهل الأندلس فلمَّا كثر الشّعر في قطرهم، وتهذّبت مناحيه وفنونه، وبلغ التَّنميقُ فيه الغاية، استحدث المتأخّرون منهم فنًّا سمّوه الموشّح... وكان المخترع له مقدم بن معافر الفريري، من شعراء الأمير عبد الله بن محمّد المروانيّ، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربّه صاحب كتاب العقد".[٣]
وقد لخّص الدّكتور محمّد عبّاسة، في كتابه (الموشّحات والأزجال الأندلسيّة وأثرها في شعر التّروبادور) تعريف الموشّح بقوله: نستخلص أنّ الموشّح في اللّغة هو من الفعل وشّح بمعنى لبس، وقد استعيرت هذه التّسمية من الوشاح الّذي تلبسه المرأة بين عاتقها وكشحها، لما فيه من رونق وزخرف وجمال. فالموشّح إذن، سمّي بذلك لأنّ أقفاله وأبياته وخرجته كالوشاح للموشّحة، بخلاف الشّعر التّقليديّ، الّذي يأتي على طرازٍ واحد، أي على رتابة القافية والأوزان الخليليّة المرعية؛ لأنّ هذا الشّعر الجديد يجمع عدّة ألوان، كلّ لون مخالف لما قبله وما بعده، وهذا يتجلّى في أقسامه من أقفال، وأبيات، وأجزاء هذه الأقسام، وقوافيها المتنوّعة".[٤]
نشأة الموشَّحات الأندلسيّة
يُعتبرُ نشوء الموشّحات خلال القرن الثَّالث الهجريّ، أمرًا غامضًا بعض الشّيء؛ وعلى هذا فقد أصبح من الصّعب تحديد أوّل صانع لها، أو تحديد سنة ظهورها، ويجري الاعتقاد أن يكون صاحبها هو مقدم بن معافي الأندلسيّ، وذلك حسب قول ابن خلدون، أو أن يكون مخترعها محمّد بن محمود القبريّ الضّرير، بحسب قول ابن بسّام. ومن الجدير بالذّكر أنّ هنالك محاولات لم تصل أيضًا لابن عبد ربّه الأندلسيّ، الّذي جنح بحسب رواية ابن خلدون إلى نظم عدد من الموشّحات، لم يورد منها شيئًا في كتابه (العقد الفريد) على الرّغم من أنّه أورد لنفسه فيه أشعارًا كثيرة.[٥]
أسباب نشأة الموشّحات الأندلسيّة
إنّ فنّ الموشّحات الأندلسيّة، نشأ بلا شكٍّ لأسباب عدّة، وهي:[٦]
- أوَّلًا: ازدهار الموسيقى، وشيوع الغناء، وخاصّة في الفترة الّتي حكم فيها الأمير عبدالله المرواني. حيث أولع فيها الأندلسيّون بالغناء والموسيقى، منذ أن قدم عليهم زرياب، وأشاع فنّه؛ ممّا أسهم في ظهور الفنّ الشّعريّ الغنائيّ، متنوّع الأوزان، ومتعدّد القوافي.
- ثانيًا: قوّة الاحتكاك العربيّ بالعنصر الإسبانيّ، حيث امتزج العرب بالإسبان، وشكّلوا شعبًا جديدًا؛ ممّا أسهم في نشوء ازدواجٍ لغويّ، نتيجة للازدواج العنصريّ.
هيكل وأجزاء الموشّحات
يختلف الشّكل العامّ للموشّحات عن الشّكل التّقليديّ للقصائد، الّتي تعرف بأبياتها القائمة على الشّطرين، ويُطلق عليهما الصّدر والعجز، بشرط الاتّفاق في حرف الرّويّ والقافية، أمّا هيكل الموشّح، فيبنى على عدّة أقسام، عُرفت بالمطلع والدّور والسّمط، وأقفال وأبيات وخرجة. وقد تأتي الموشّحات على إحدى الطّريقتين، بحسب ما ذكر ابن سناء الملك، فتكون إمّا موشّح تامّ، وهو الموشّح الّذي يتألّف من ستّة أقفال في الأكثر وخمسة أبيات، أو موشّح أقرع، يتألّف في الأقل من خمسة أقفال وخمسة أبيات.[٧]
أجزاء الموشّح:
يتألّف الموشّح من أجزاءٍ عدّة، وهي:[٨]
أوّلًا: المطلع
وهو ما يُطلق على المجموعة الأولى من الموشّح، والّتي غالبًا ما تتألّف من جزأين اثنين، ومثاله مطلع موشّح ابن زهر الأندلسيّ التّامّ:
أيّهذا السّاقي إليك المشتكى قدْ دعوناك وإنْ لم تسمعِ
وهناك موشح تام آخر للأعمى التطيلي، المطلع فيه يتكون من عدة أجزاء، على النّحو، كما ذكره ابن سناء الملك:
ضاحك عن جمان سافر عن بدر ضاق عنه الزمان وحواه صدري
وقد يخلو الموشّح من المطلع، وهذا ما يُسمّى بالموشّح الأقرع، ومثاله، موشّح التّطيليّ:
سطوة الحبيب أحلى من جنى النّحل
وعلى الكئيب أن يــخــضعَ للـــــذّلّ
أنا في حروبٍ مــع الحـــدق النّجل
ثانيًا: الدّور
وهو مجموع الأجزاء الّتي تتبع المطلع، ويبلغ عددها 3-5 أجزاء، دون تحديدٍ لعددٍ معيّن لها. كما هو الحال في موشّح ابن زهر التّام، فالدّور الأوّل الّذي يلي المطلع هو:
ونديمٍ همْتُ في غرَّته
وبشرب الرّاح من راحته
كلّما استيقظ من سكرته
ثالثًا: السّمط
وهو الجزء من الدّور، والّذي يمكن أن يكون مفردًا، أو من فقرتين فأكثر.
رابعًا: القفل
"وهو مجموع الأجزاء الّي تلي الدّور الأوّل، ويُشترط أن تكون متّفقة في الوزن، والقوافي، وعدد الأجزاء. وقد أشار ابن سناء الملك إلى أنّ القفل المركّب قد يكون مركّبًا من جزأين، أو ثلاثة، أو أربعة، وحتّى الثّمانية، كقول ابن اللبانة:
على عيون العين رعى الدّراري من شغفٍ بالحبّ
واستعذب العذابَ والتذّ حاليـــــــه: من أسفٍ وكربٍ
خامسًا: البيت
الّذي يتكوّن في الموشّح من الدّور، والقفل الّذي يليه.
سادسًا: الغصن
وهو جزء من الأقفال، والأغصان متساوية في جميع الأقفال في العدد والتّرتيب، ويبلغ عدد الأغصان في الموشّح ما بين الغصنين إلى عشرة أغصان.
سابعًا: الخرجة
وهي آخر قفل في الموشّح، وتتعدّد أنواعها، فمنها:
- الخرجة العامّية: كخرجة موشّح الأعمى التّطيلي:
يا رب ما أصبرني نرى حبيب قلبي ونعشقو
- الخرجة المعربة: كقول ابن بقي:
ليلٌ طويلٌ ولا معين يا قلب بعض النّاس أما تلين
- الخرجة الأعجميّة: كخرجة موشّح الأعمى التّطيلي:
ألب ديــا اشــت ديـا
ديا ذي العنصرة حقّا
بيشتري مو المدبــــج
ونشق الرّمح شــقًّــــا
موشح زمان الوصل ( جادك الغيث )
للشاعر لسان الدين الخطيب [٩]
جادكَ الغيثُ إذا الغيـثُ همى … يا زمانَ الوصلِ بالأندلسِ
لم يكنْ وصلكَ إلّا حُلُمَا … في الكرى أو خلسةَ المختلسِ
إذ يقودُ الدهرُ أشتاتَ المنى
تنقل الخطوَ على ما ترسمُ
زمراً بين فُرادى وثنا
مثلمَا يدعو الحجيجَ الموسمُ
والحيا قد جللَ الروض سنا
فثغورُ الزهرِ فيه تبسمُ
وروى النعمانُ عن ماء السّما … كيفَ يروي مالكٌ عـن أنَسِ
فكساهُ الحُسن ثوباً مُعلما … يزدهي منه بأبهى ملبسِ
في ليالٍ كتمتْ سرَّ الهوى
بالدُجى لولا شموس الغُررِ
مالَ نجمُ الكـأس فيها وهوى
مستقيمَ السيرِ سعدَ الأثرِ
وطرٌ ما فيه من عيبٍ سوى
أنّه مرَّ كلمحِ البصرِ
حين لذّ النوم شيئاً أو كما … هجمَ الصبح هجوم الحرسِ
غارتِ الشهب بنا أو ربما … أثرت فينا عيون النّرجسِ
أيّ شيء لامرئٍ قد خلُصا
فيكون الروضُ قد مُكّن فيهْ
تنهب الأزهار فيه الفُرصا
أمِنت من مكره ما تتّقيهْ
فإذا الماء تناجى والحصا
وخلا كلّ خليلٍ بأخيه
تُبصر الورد غيوراً بَرما … يكتسي من غيظه ما يكتسى
وترى الآس لبِيبا فهما … يسرق السمع بأذني فرس
يا أهَيلَ الحيّ من وادي الغَضا
وبقلبي مَسكنٌ أنتم بهِ
ضاقَ عن وجدي بكم رحبُ الفضا
لا أبالي شرقه من غربهِ
فأعيدوا عهدَ أُنسٍ قد مضى
تعتقوا عبدكم من كربهِ
واتقوا الله، وأحيوا مُغرما … يتلاشى نَفَسَاً في نفسِ
حبس القلب عليكم كَرما … أفترضونَ عفاءَ الحُبسِ
وبقلبي منكمُ مقتربٌ
بأحاديث المنى وهو بعيدْ
قمرٌ أطلع منه المغربُ
شقوة المضنى به وهو سعيدْ
قد تساوى مُحسنٌ أو مُذنبٌ
في هواه بين وعدٍ ووعيدْ
أحورُ المقلةِ معسولُ اللمى … جالَ في النَّفْسِ مجالَ النَّفَسِ
سددَ السهمَ فأصمى إذ رمى … بفؤادي نبلُه المفترسِ
إنْ يكن جار وخاب الأملُ
ففؤادُ الصَّبِّ بالشوقِ يذوبْ
فهو للنفسِ حبيبٌ أولُ
ليسَ في الحبّ لمحبوبٍ ذنوبْ
أمرهُ معتملٌ ممتثلُ
في ضلوعٍ قد براها وقلوبْ
حكَمَ اللحظُ به فاحتكما … لم يراقب في ضعاف الأنفـسِ
ينصف المظلوم ممن ظلما… ويجازي البَرَّ منها والمُسِي
المراجع
- ↑ الدكتور محمد عباسة ، الموشحات والأزجال الأندلسية وأثرها في شعر التروبادور، صفحة 5. بتصرّف.
- ↑ الدّكتور محمّد عبّاسة، الموشّحات والأزجال الأندلسيّة وأثرها في شعر التّروبادور، صفحة 47. بتصرّف.
- ↑ الدّكتور محمد زكريا عناني، الموشَّحات الأندلسيَّة، صفحة 17-18. بتصرّف.
- ↑ الدّكتور محمّد عبّاسة ، الموشحات والأزجال الأندلسية وأثرها في شعر التّروبادور، صفحة 48.
- ↑ كوثر هاتف كريم ، البناء الفني للموشح النشأة والتطوير، صفحة 5. بتصرّف.
- ↑ كوثر هاتف كريم، البناء الفني للموشح النشأة والتطوير، صفحة 6. بتصرّف.
- ↑ سماح محمّد بلاط، فنّ الموشّحات الأندلسيّة: مقاربة أدبيّة وفنّية، صفحة 56. بتصرّف.
- ↑ زهيرة بوزيدي، نظريّة الموشّح ملامحها في آثار الدّارسين العرب والأجانب، صفحة 71-65. بتصرّف.
- ↑ صنعه وحقّقه الدّكتور محمّد مِفتاح، ديوان لسان الدين بن الخطيب، صفحة 792.