اسم الأندلس في النّفوس له إيقاع شجي عميق آسر يأسر النفوس، ويحيي توهجها، ويعيد للخاطر أمجاد مدنٍ لا تُنسى، مثل: قرطبة، وغرناطة، وإشبيلية، وذكرى أعلام قد خلدوا على مر الزمان. وفي فترةٍ ما ازدهرت فيها العلوم، والفنون، ونشطت حركة الأدب، وتطور الشعر الأندلسي، فظهرت فنون جديدة كالموشّحات والأزجال التي شاعت في ذلك العصر، فما الفرق بينهما، وسمات كلٍّ منهما، هذا ما سيتم توضيحه في المقال.[١]


الموشّحات


النشأة

اشتهرت الأندلس بأنها ابتكرت فن الموشّحات، وذلك لاتساع موجة الغناء والموسيقى منذ زرياب في عهد عبد الرّحمن الأوسط، وكانت الموشّحة تتألَّف من فقرتين فقرة للمنشد، وفقرة ترد بها الجوقة، وقد كان بدء ظهورها في عهد الأمير عبد الله بن محمد، ويُذكر بأنّ المخترع لها هو مقدم بن معافى القبري، وهو من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، ثمّ أخذ عنه أبو عمر بن عبد ربه [٢]، إضافةً إلى أن اختلاط العرب بالإسبان، وامتزاجهم في الأندلس، ونشوء المولدين كان سببًا من أسباب ظهور فن الموشّحات.[٣]


تعريف الموشحات

الموشّحات جمع موشّحة، وهي مشتقة من الوشاح وهو- كما في المعاجم- خيطان من لؤلؤ، وجوهر منظومان يخالَفُ بينهما معطوف أحدهما على الآخر؛ إذ أنّ الموشّحة تتألّف من قفل يُسمَّى مركزًا، وتتعدى أجزاؤه أو شطوره، ويليه غصن متعدد الأجزاء أو الشطور. وبينما تتحد أجزاء الأقفال التالية مع الأجزاء المقابلة لها في القفل الأول سواء في الوزن أو القافية، تختلف أجزاء الأغصان التالية مع أجزاء الغصن الأوّل في قافيته، فلكل غصنٍ قافيةٍ تتحد في أجزائه، أو شطوره مع اتفاق أجزاء الأغصان جميعًا في الوزن.


فالموشحة بذلك تتألف من مجموعتين من الأجزاء أو الشطور؛ مجموعة تتحد أجزاؤها المتقابلة في الأقفال، المتعاقبة في الوزن والقافية، ومجموعة تتحد أجزاؤها في الوزن وحده، دون القافية فإنها تتخالف فيها دائمًا.[٢]


والموشحة عند (ريبيرا): هي طراز شعري يمتزج فيه الشّرق بالغرب، ذلك الظنُ الّذي اعتقده البعض بأنّ الخرجات (الخواتيم) الرُّومانسية في الموشّحات الأولى كانت أجزاء مقتبسة من أغانٍ شعبيّة إسبانيّة أُعجِب بها الوشّاح الأول، ولكنّ الحقيقة المنطقيّة أن يكون حدث أحيانًا عند الوشّاح الأول اقتباس صيغة عاميّة، أو أعجميّة في نهاية الموشّحة على سبيل التظرف، كما حدث عند بعض الشعراء العباسيين. فالموشحة هي تطوّر ومحاكاة للمسمّطات الّتي عُرفت في العصر العباسي.[٤]


أغراض الموشحات

بما أن الموشحات قد اتصلت بفن الغناء فإن أكثر الموشحات كانت في الغزل، ووصف مجالس الأنس، ومجالس اللّهو والمجون، ثم بدأ الوشاحون بمزج أغراضٍ شعريّة أخرى كالخمريات، ووصف الطبيعة، والمدح، والرّثاء، والهجاء، والمجون، والزّهد، والتّصوف، وغيرها.[٥]


أشهر الوشاحين في الأندلس


ابن عُبادة القزّاز

وهو أبو عبد الله محمد بن عبادة المعروف بان القزّاز من حصن بلّور من إقليم غرناطة، شاعر المعتصم بن صمادح أمير المرية، كما ألمّ بالمعتمد بن عبّاد، وقد نظم فيهما مدائح شعريّة، وموشحات، ومن أشهر ما قاله:[٦]


بدرتم شمس ضحىً غصن نقا مسك شم ما أتمّ ما أوضحا ما أورقا ما أنمّ لا جرمْ من لمحا قد عشقا قد حُرِم



يحيى بن بقي

هو أبو بكر يحيى بن محمد بن عبد الرّحمن القرطبي القيسيّ، المشهور باسم ابن بقي نسبةً إلى جدّ أبيه، غمره قضاة سلا بجودهم فمكث في رحابهم، خاصّة يحيى بن علي بن القاسم، وأخاه أحمد قاضي سلا، فقد أضفى عليهما من شعره، وموشّحاته دررًا كثيرة، ومنها موشّحة مدح بها القاضي أحمد قائلًا:[٧]

أما ترى أحمد في مجده العالي لا يلحق

أطلعه المغرب فأرنا مثله يا مشرق


أبو بكر بن زُهْر

هو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن أبي العلاء زهر بن عبد الملك، سليل أسرةٍ عرفت بأطبائها، ولد في إشبيلية، وأخذ علم الطّب عن أبيه وجدّه، كما انفرد بالإمامة في عصره، كان له منزلة عند الموحّدين، وخاصّة عند الأمير يعقوب بن يوسف سلطان الموحّدين، ومن أشهر موشحاته التي طارت في المغرب، والمشرق قوله المشهور:[٨]


أَيُّها الساقي إِلَيكَ المُشتَكى قَد دَعَوناكَ وَإِن لَم تَسمَع


وَنَديمٌ هِمتُ في غُرّتِه

وَسقاني الراحَ مِن راحَتِه

كُلَّما اِستَيقَظَ مِن سَكرَتِه


جَذَبَ الزِقَّ إِلَيهِ وَاِتَّكا وَسَقاني أَربَعاً في أَربَع



الأزجال


النشأة

هو لون من ألوان الأدب نشأ في الأندلس، شاع بعد ظهور الموشحات فكان تابعًا ومقلّدًا له، وهو أشد بساطة منه؛ لأنه يأتي بالعاميّة الدّارجة، مما يتغنى به في الطرقات على عكس الموشح الذي يأتي بالعربي الفصيح [٩]. ويختلف في مخترعها فقيل إنّ مخترعها هو يخلف بن راشد، وقيل مدغليس، وكان يخلف بن راشد قبل ابن قزمان، ويرى البعض أن ابن قزمان هو أوّل من اخترع الزّجل.[١٠]


تعريف الأزجال

الأزجال جمع زجل، وهو في اللغة التطريب، وقد أطلق الأندلسيون الأزجال على الفن الشّعري العامي المقابل للموشّحة، وفي اسمه ما يدلّ على أنّه نشأ للتغني به في الطّرقات، والأسواق، والمحافل العامّة. ويرى (ريبيرا) بأن صورتها لا تختلف عن صورة الموشّحة من حيث الأقفال، والأغصان؛ فقرنها بالموشحات في نشأتها، فهي عنده طراز شعري شعبي تمتزج فيه مؤثّراتٍ غربية، وشرقية، متّخذًا صورتين هما الموشّحة الفصيحة، والزجل السوقي الدّارج.[١١]


أغراض الزّجل

تناول الزّجل في مضامينه الأغراض التي تناولتها القصيدة التّقليديّة والموشّح، فنظموا في الغزل، ووصف الطبيعة والإعجاب بجمالها ومفاتنها، والخمريات، والمدح، وأغراض دينية منها الزهد، وكان كثير منه ينشد في الحث على الجهاد.[١٢][١٣]


أشهر زجالي الأندلس


ابن قزمان

هو أبو بكر محمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان، من بيتٍ عريقٍ بقرطبة، عاش عصر المرابطين، وتوفي في صدر دولة الموحدين، كان أديبًا، وكاتب وثائق، كما كان شاعرًا، ووشّاحًا اشتهر بالزجل في كافة مدن الأندلس، ومن زجلياته في وصف الطبيعة:[١٤]


الرّبيــع ينشـــر عــلامُ مثـل ســــــلطانًا مـؤيـد والثّمـار تـنـثـــر حليــــه بثيــاب بحـــل زبرجــد والرّيــاض تلبــس غلالا من نبـات فحــل زمــرد والبهــار مـع البـنـفسـج يا جمال أبيض في أزرق



أبو الحسن علي بن محمد الشّاطبي

وهو من كبار الزّجالين بعد ابن قزمان، ومن أزجاله قوله واصفًا العدوّ:[١٥]


كلما را السيوف إليه تنجرد صاح و يشكو و ثمّ لم يرتفد ينبح الكلب إذ يرى الأسد والأسد لس يهزّو ذاك النّباح و رجاعت عليه جنود و وبال ومال النّحس ما عو كف ما مال لم تنجيّه وصيّة الكردنال ول فادت نصيحة النّصّاح



ابن عمير

من الزّجالين المهمين الذي أنشد قائلًا:[١٦]


يا حبيب قلبي تعطّف بعض هذا الهجر يكفا فدموع عيني ما ترقا ولهيب قلبي ما يطفا



محمد بن عبد العظيم

من وادي آش، وكان إمامًا في الزّجل أيضًا، وله قطعة من زجل عارض به زجلًا لمدغليس استهلّها بقوله:[١٦]


حلّ المجون يا أهل الشطارا مذ حلّت الشّمس بالحمل


المراجع

  1. محمد زكريا عناني، الموشحات الأندلسية، صفحة 7. بتصرّف.
  2. ^ أ ب شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 146-147.
  3. أسماء نميش، الموشحات والأزجال وأثرها في الأدب الأوربي القديم.، صفحة 28.
  4. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 148-149.
  5. أسماء نميش، الموشحات والأزجال وأثرها في الأدب الأوربي القديم، صفحة 72-73. بتصرّف.
  6. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 155-156.
  7. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 157-158.
  8. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 160. بتصرّف.
  9. أسماء نميش، الموشحات والأزجال وأثرها في الأدب الأوربي القديم، صفحة 96-97.
  10. أسماء نميش، الموشحات والأزجال وأثرها في الأدب الأوربي القديم، صفحة 107.
  11. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 163-164.
  12. أسماء نميش، الموشحات والأزجال وأثرها في الأدب الأوربي القديم، صفحة 122.
  13. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 165.
  14. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 168-170.
  15. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 166-167.
  16. ^ أ ب شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي العصر الأندلسي، صفحة 167.