رؤية حَولَ كِتابِ "الشِّعرِ والشُّعراء" وَصاحِبِهِ

يُعدُّ أَبْو مُحَمَّد عبد الله بِن مُسلِم بِن قُتَيْبَة الدَّينوريِّ، صاحِبَ كِتاب الشِّعرِ والشُِعراءِ، والّذي جاء في سيرَتِهِ بأنَّهُ وُلِدَ في بَغداد، وقيلَ أنَّهُ وُلِدَ في الكوفة. كانَ نحويًّا لُغويًّا، ومُؤلِّفًا لِعَديدٍ مِنَ الكُتُبِ ومِنها: كِتابِ المعارف، وأدب الكاتب، وغريب القُرآن، ومُشَكّلِ الحَديث، وكِتابِ التّفقيهِ، وكِتابِ الشِّعرِ والشُّعراء، وغيرِها مِنَ الكُتُبِ المُفيدَةِ. وقد ألَّفَ أَبْو مُحَمَّد الدَّينوريِّ هذا الكِتابَ في الشِّعرِ لِيُخبِرَ فِيهِ عَنِ الشُّعراءِ، وأزمانِهِم، وأقدارِهم، وأحوالِهم في أشعارِهم، كَما أخبَرَ فيهِ عَن أقسامِ الشِّعرِ، وطَبقاتِه، وعَنِ الوجوه الّتي يَختار الشِّعرِ عَليّها، ويستحسن لها.[١]


تحليل كتاب الشعر والشعراء



عنوانُ الكِتابِ

لَم يَحدُثِ اتِّفاقٌ من قِبَلِ المَصادِرِ الَّتي تَحدَّثت عَنِ الكِتابِ على عِنوانه، فاسمُهُ عند ابن النَّديم (الشِّعرُ والشُّعراءُ)، وفي كِتابِ الجّاحظ وَردَ باسم (أخبارِ الشُّعراءِ)، كَما يُسمِّيهِ ابنُ قُتيبَة في كتابِ المعارف باسم كتابِ (الشّعراء)، ولهُ عدَّة عناوين أخرى، ككتاب (الشِّعر)، وكِتاب (طبَقات الشِّعر)، أمَّا المُستشرِقُ (ألورد) فلاحظَ أنَّ الشُّعراءَ في الكِتابِ، على الرّغمِ من أنَّهُم غير مُرتَّبين بِدقّة،ٍ إلَّا أنَّهُم مُقسَّمونَ بِحسب قُدرَةِ الشّاعِرِ الفنيَّة، أو حسب القَبائل، وعليهِ فإنَّ عنوان (طبَقاتِ الشُّعراء) هُوَ العنوان الأنسب، إلّا أنَّ هذهِ المُلاحظةَ ليسَت صحيحةً؛ إذ لم تَرِد القُدرةُ الفنيَّة في منهَج المؤلّف، وعَليهِ فإنَّ عنوانَ (الشِّعرِ والشُّعراء) هُوَ العنوان الأنسب لِمادةِ الكِتابِ، ومنهج المؤلِّف.[٢]


مُقدِّمةُ كِتابِ الشِّعرِ والشُّعراءِ

يُعدُّ منهَجُ ابن قُتيبَة أوَل منهجٍ يَصِلُنا باللَّغةِ العَربيَّةِ، عَلى هَذا القَدرِ مِنَ الوُضوحِ؛ إذْ تَضمَّن حديثًا عن مادَّةِ الكِتابِ، وغايةِ المُؤلِّف، كما تضمَّنَ الحديثَ عن وسيلَته لتحقيقِ هذا الهَدَفِ [٣]، ووضَّحَ مادَّتَهُ في مُقدِّمَةِ كِتابِهِ، حيث قال: "هذا كِتابٌ ألَّفتُهُ في الشُّعراءِ، أَخبرتُ فيهِ عنِ الشُّعَراءِ وأزمانِهِم، وأقدارِهِم، وأحوالِهِم في شِعرِهِم، وقبائِلِهم، وأسماءِ آبائِهم…" كَما أردَف " كانَ أكثَرُ قصدي لِلمشهورِينَ مِنَ الشُّعراءِ، الَّذينَ يعرِفُهُم جُلُّ أهل الأدَبِ، والّذينَ يقعُ الاحتجاجُ بأشعارِهم في الغريب، وفي النَّحوِ، وفي كِتابِ الله عزَّ وجلَّ، وحديثِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ". كَما وضَّحَ مُؤلِّفُ كِتابِ الشِّعرِ والشُّعراءِ، بأنَّهُ لَمْ يُلِم بِجَميعِ الشُّعَراءِ[٤].


كَما بيَّنَ ابن قُتَيبَةَ موقِفَهُ مِنَ الشُّعَراءِ المغمورين ووَضَّحَهُ بِقولِهِ:"فأمّا من خفي اسمه، وقلَّ ذِكره، وكسد شِعره، وكانَ لا يعرِفُهُ إلّا بعض الخواصِّ، فما أقلَّ من ذكرتُ من هذِهِ الطَّبقة، إذ كنت لا أعرِفُ منهم إلّا القَليل، ولا أعرِفُ لذلك القليل أيضَا أخبارًا، وإذ كنت أعلَمُ أنّه لا حاجة بِك إلى أن أسمّي لك أسماء لا أدلُّ عليها بخبرٍ أو زمانٍ، أو نسبٍ، أو نادِرةٍ، أو بيتٍ يُستجاد، أو يستغرب."[٥]


أقسامُ مَتن كِتابِ "الشِّعرِ والشُّعراءِ"

لِكتابِ الشِّعرِ والشُّعراءِ تِسعةُ أقسامٍ، هي: [٦]

  • القسمُ الأوَّلُ: ذكَرَ ابنُ قُتيبَةَ في بِدايَةِ القسمِ الأول مِنَ المَتن أقسام الشِّعرِ الأربعة.
  • القسمُ الثَّاني: عمدَ فيهِ على ذكرِ بدايات الشّعرِ، منْ ذكرِ الدِّيارِ، والدِّمنِ والآثارِ.
  • القسمُ الثّالثُ: تطرّقَ ابنُ قتيبة في هذا القسمِ إلى ذكرِ الشُّعراء، المُتَكلِّفِ مِنهُم ممّن يقوّم شعره بالثّقافِ، وينقّحهُ بطولِ التَّفتيشِ، كزهير بن أبي سلمى والحطيئة. بالإضافةِ إلى ذكر المطبوعِ من الشّعراءِ.
  • القسمُ الرّابعُ: تحدَّثَ عَن دواعي قول الشِّعرِ؛ كالطّمع، والشَّوقِ، والطَّربِ، والغضبِ.
  • القسمُ الخامسُ: تحدَّثَ عَن مُحاولتهِ في مُخالَفةِ السَّائد، والابتِعاد عن التَّقليدِ.
  • القسمُ السّادسُ: تناولَ فيه الحديثَ عن أهميَّةِ السَّماع في الشِّعرِ، لما فيه من ألفاظ غريبةٍ، ولغات مختلفةٍ، وكلامٍ وحشيّ.
  • القسمُ السّابعُ: تحدَّث فيه عن المُتكلِّف والمَطبوعِ؛ فمنهم يسهلُ عليه المدح، ويعسرُ عليه الهجاء، ومنهم تتيسّرُ له المراثي.
  • القسمُ الثّامنُ: ذكر عُيوب الشِّعرِ؛ كالإقواءِ، والإكفاءِ، والإسنادِ، والإيطاءِ، والإجازة، وعُيوب الإعراب.
  • القسمُ التّاسعُ: تناول في هذا القسم الحديثَ عن الشُّعراء، والتَّرجمة لِحَياتِهم، وأخبارِهم فيبدأ بِذكرِ أوائلِ الشُّعراء وِفقًا لِمنهجِه في المقدّمة.


تَصنيفُ ابنِ قُتَيبَةَ لِلشِّعرِ والشُّعرَاءِ

قامَ ابنُ قُتيبَةَ بِتقسيمِ الشِّعرِ إلى أربَعَةِ أقسامٍ:[٧]

  • ضَربٌ حسُنَ لَفظَهُ، وَجادَ معناه: ومِثالٌ على ذَلِكَ قول القائل في أحدِ بَني أميَّةَ:[٧]

بِكفِّهِ خَيزُرانٌ رِيحُهُ عَبَقٌ مِن كَفِّ أَروعَ في عِرنينِيهِ شممُ

يُغضِي حياءً ويُغضى مِن مَهابَتِهِ فَما يُكلَّمُ إلَّا حينَ يَبْتَسِمُ


  • ضَربٌ حَسُنَ لَفظَهُ وَحَلا، فإذا فَتَّشْتَهُ لَمْ تَجِدْ هُناك فائِدة في الَمعْنَى، كَقولِ القائِل:[٧]

وَلمَّا قَضَيْنَا مِن مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ وَمَسَّحَ بِالأركانِ مَن هُوَ مَاسِحٌ

وشُدَّت على حُدبِ المَهَارى رَحالُنا ولا يَنظُرُ الغَادي الَّذي هُوَ رائِحُ

  • ضَربٌ جَادَ مَعناهُ، وَقَصُرَت أَلفاظُهُ عَنهُ، ومِثالٌ على ذَلِكَ ما قالَهُ الشّاعِرُ لبيدٌ بن ربيعة:[٧]

ما عاتَبَ الحُرُّ الكَريمَ كنفسَهُ والمَرءُ يُصلِحُهُ الجَّليسُ الصَّالِحُ

  • ضَربٌ تَأخَّرَ مَعناه وتَأخَّرَ لَفظَهُ، ويُعتَبَرُ هذا النّوع مُتكلِّفًا، رديءَ الصَّنعَةِ. ومِثالٌ عَلى ذَلِكَ ما قالَهُ الخَليلُ بن أحمدٍ العَروضيِّ:[٧]

إن الخلـيط تصدع فِطـر بدائك أو قـع

لَولا جوار حَسان حور المدامع أربع

أمُّ البَنينِ وأسماء والرّباب وبوزع


أما عَن مَنهَجهُ فِي تَرتيبِ الشُّعراءِ، فَنوَّهَ فِي مُقدِّمةِ كِتابِهِ إلى أنَّهُ لَم يَذكُر جَميعَ الشُّعَراءِ كَما يُمكِنُ أن يَظُنَّ أحَدَهُم، فقالَ: "وَلَعلَّكَ تَظُنُّ رحِمَكَ الله أَنَّهُ يَجِبُ على مَنْ أَلَّفَ مثلَ كِتابنا هذا أَلَّا يَدَع شاعِرًا قَديمًا وَلا حَديثًا إلَّا ذَكَرَهُ، ودلَّل عليه، وتُقدِّرُ أن يكون الشُّعراء بِمنزلةِ رُواةِ الحديثِ والأخبارِ، والمُلوكِ والأشرافِ، الَّذينَ يَبلُغهم الإحصاءُ، ويَجمَعُهم العَدد، والشُّعراءُ المَعروفون بالشِّعرِ عِندَ عشائِرِهم وقَبائِلهم في الجَّاهِليَّةِ والإسلامِ، أكثرُ من أن يُحيطَ بِهم مُحيط، أو يقفُ مِن وراء عددهم واقِف…".[٨]


إضافةً إلى ذَلِكَ فإنَّ ابنَ قُتَيبَةَ لَم يَلتَزِم بِمنهجٍ مُعيَّنٍ في تَرتيبِ الشُّعراءِ، لا مِن حيث الشُّهرَةِ، والنَّباهَةِ، والأقدميَّةِ، كَما أنّهُ لَم يَلتَزِم بالتَّرتيبِ الأبجَدِيِّ؛ بَل رتّبَ الشُّعراء على ما يُمكِنُ تَسميَتهُ (تَداعي المَعاني)، كَما أنَّ صِلةَ القَرابةِ قد تَكونُ أحد عوامِلِ ترتيبِ الشُّعراءِ، وَهي إمّا قَرابة أُسريَّة، أو صِلة قبليّة، وَرُبَّما تكونُ قرابةً فنيَّة، أو حديثًا مُشتَركًا، أو حتّى صداقة.[٩]


خُلاصة آراء النُّقاد الدَّارِسين لِكتاب الشِّعرِ والشُّعراءِ

  • أوَّلًا: ملكة علي كاظم الحدّاد: قالتِ الباحِثَة في بَحثِها المُقدّم بعِنوانِ "العلاقةِ بَينَ العَتباتِ النّصّيّة والمَتنِ في كِتابِ الشِّعرِ والشُّعراء لابن قتيبة: "وكانَ الأنموذَجُ الَّذي اخترناهُ لِلتَطبيقِ (كِتَابُ الشِّعرِ وَالشُّعراءِ) خَير أُنموذجٍ على ذلكَ؛ إِذْ تَتَبعنا فيهِ مدى العلائِقِ والتَّرابط بينَ العنوانِ والمُقدمةِ والمَتنِ، الّذي كَشَفَ لنا عَن عَقلِيَّةٍ مَنهَجِيةٍ صَارِمة ودَقيقة لمؤلفه "وتابعت الباحثةُ قولها: أنَّ العنوانَ جاءَ مُختَزلًا ومُكثَّفًا، لكِنَّهُ فِي الوَقتِ ذَاته دَالًّا دلالةً تامَّةً ودَقيقةً عَلى مَقصِدِ ابنِ قتيبة فِي مَتنِ كِتابِهِ أَو مُقَدِّمتِهِ عَلى السَّواءِ. كَما أنّ المُقدِّمة لم تخرج، على الرَّغمِ مِنْ إيجازها أيضًا، عَن هذهِ الغَايةِ مِنْ حَيثِ تَقديمِها للمتنِ، وإِضاءة أهمِّ أقسامِه ومضامِينِهِ. وإن كانَ هناكَ تناقُض يُؤخذُ على ابن قتيبة نقديًّا وليس منهَجيًّا في كتابِهِ، فهو التناقضُ الَّذي وَقعَ فيهِ عندما ألزمَ نفسَه بعدمِ سلوكِ مسلكِ من سبَقه في التقليدِ في مقدِّمَتِهِ، ولكنَّهُ خَالَفَ ذلكَ في المَتنِ حِينما جعل الالتزام بهيكلية القصيدة العربية القديمة شرطًا مَن شُروطِ جَودةِ الشِّعرِ ونَجاحِهِ."[١٠]
  • ثانيًا: الأستاذُ السَّيِّد أحمد صقر، والَّذي وصفَ كتاب "الشّعر والشّعراء" بقوله: "وهَذا كِتابٌ مِنْ أَرفعِ كُتُبِ الأَدَبِ قَدْرًا، وأنبَهُهَا ذِكرًا، وأقدَمُها نَشْرًا".[١١]
  • ثالثًا: الأستاذ محمد زغلول سلام: يرى هذا الباحث أنّ الجزء الثّاني من الكتاب ليس سوى نقل لأخبارٍ من كتب سابقيه ومعاصريه كالجاحظ في كتابه "البيان والتبيين"، وابن سلّام في "طبقات فحول الشعراء، وقد اتفق معه الدكتور مندور.[١٢]

المراجع

  1. عبدالله ابن قتيبة، الشِّعر والشُّعراء، صفحة 1. بتصرّف.
  2. رضا العزب، الرؤية النقدية لابن قتيبة في الشعر والشعراء، صفحة 10-11. بتصرّف.
  3. رضا العزب، الرؤية النقدية البن قتيبة في الشعر والشعراء، صفحة 12. بتصرّف.
  4. أحمد شاكر، الشعر والشعراء لابن قتيبة، صفحة 59-60. بتصرّف.
  5. عبدالله ابن قتيبة، الشعر والشعراء، صفحة 1. بتصرّف.
  6. ملكة الحداد، العلاقة بين العتبات النصية و المتن في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة: دراسة نقدية، صفحة 105-106. بتصرّف.
  7. ^ أ ب ت ث ج رضا العزب، الرؤية النقدية البن قتيبة في الشعر والشعراء، صفحة 19-22. بتصرّف.
  8. عبدالله بن قتيبة، الشعر والشعراء، صفحة 1. بتصرّف.
  9. رضا العزب، الرؤية النَّقدية لابن قتيبة في الشعر والشعراء، صفحة 40-41. بتصرّف.
  10. ملكة الحداد، كتاب العلاقة بين العتبات النصية و المتن في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة: دراسة نقدية، صفحة 97. بتصرّف.
  11. أحمد شاكر، الشعر والشعراء لابن قتيبة، صفحة 7. بتصرّف.
  12. محمد سلام، نوابغ الفكر العربي، صفحة 62. بتصرّف.