حظيَ الأدبُ في العصرِ الأندلسيِّ بمكانةٍ عظيمةٍ، في الجوانب المنظومة والمنثورة؛ إذ شاركَ الأندلسيُّون في كافّة قضايا الأدب وموضوعاته، حتّى أثبتوا أنفسهم، عند أهل المشرق، وأصبحوا مرجعًا مهمًّا في شتّى الأمور، ومختلف العلوم والفنون والآداب، وكافّة المناشط الثّقافيّة، والفكريّة، والحضاريَّة، كما أنَّهم أسهموا في تجديد بعض الموضوعات والأغراض، وألبسوها حلَّةً أندلسيَّة جديدة ميّزتها فتفرّدوا فيها. ولكنَّ بُعد الأندلس عن المشرق، في القرون الأولى، وتخييم المحلّيّ المشرقيّ على السّاحة الأدبيّة، قلّلا من وصول هذا النّتاج لكثير من النّاس، فعرفه الخاصّة والقلّة.[١]


خصائص الشّعر الأندلسي

من سمات الشّعر الأندلسيّ العامّة المشتركة:[٢]

  • غلبة الوصف الشّعريّ، والخيال، وذلك بما كانت توحيه الطّبيعة الخلّابة في الأندلس، حيثُ أنّ مظاهر هذه الطّبيعة كان يشكّل مصدر إلهامٍ لدى الشّعراء، فتراهم ينظمون أشعارهم في وصف الطّبيعة الحسّيّ، كوصف نهرٍ، أو طيرٍ، أو واحةٍ، أو حتّى وصف الخضرة، والأشجار، والثّعابين، والصّخور. ولم يقتصر هذا الوصف فقط على مظاهر الطّبيعة، بل اعتمد الشّعراء على غرض الغزل الّذي يتغنّى فيه الشّاعر بأوصاف المرأة مستعيرًا أوصافها من مظاهر الطّبيعة، بالإضافة إلى ما كان من وصفٍ للخمرة أيضًا.
  • الميل إلى توظيف الأساليب البيانيَّة، من تشبيهٍ، واستعارةٍ، وكنايةٍ، وبعض الأساليب كالطّباق، والمقابلة، وحسن التّعليل، والمبالغة. وإن كان هذا يؤدّي أحيانًا إلى المبالغة والمغالاة، وذلك في بعض القصائد.
  • استخدام معانٍ تتّسم بالجدَّة، والطّرافة، حيث كان هذا التّنوّع في المعاني، يضيفُ جماليّةً على النّصّ الأدبيّ، فتراه نصًّا شعريًّا قويًّا ومنسابًا.
  • سهولة الألفاظ، وعذوبتها، ووضوح المعنى؛ فمن النّادر أن تجد في الشّعر الأندلسيّ ألفاظًا موحشة غريبة، بل كان يُعمد إلى استخدام ألفاظٍ قريبة من الذّوق العام وآدابه، وبعيدةً عن الغرابة.
  • اعتماد الشّعراء الأندلسيّين على توظيف جميع الأغراض الشّعريّة، كالفخر، والرّثاء، والوصف، والغزل، والمدح، والهجاء، والمجون.
  • رقّة العواطف الّتي عُرف بها شعراء العصر الأندلسيّ، وليس هذا الأمرُ غريبًا فالطّبيعة الأندلسيّة بجمالها الخلّاب كانت مصدر الهدوء والرّاحة، في نفس كلّ شاعرٍ يرى مظاهر هذا الجمال فيتغنّى به، بصدقٍ في الإحساس، ودقّةٍ في التّعبير.
  • شيوع الغزل في الشّعر الأندلسيّ، بنوعيه الاثنين، الصّريح الّذي يعتمد على تجسيد المظاهر الحسّيّة، ووصف المرأة، بالاستعانة بمظاهر الطّبيعة، وتوظيف النّوع الآخر من الغزل الطّاهر العفيف، والّذي اعتمده الكثير من الشّعراء، وخاصّة بعد أن أثّر الفتح الإسلاميّ على تهذيب ألفاظ اللّغة المستعملة. بالإضافة إلى شيوع التّغزّل بالنّصرانيّات، والصّبيان، والرّهبان، والنّسّاك.
  • شيوع التّشبيب بالشّعر الأشقر بدلًا من الشّعر الفاحم، بالإضافة إلى جعل المرأة صورةً مشرقةً من مظاهر الطّبيعة.


الشّعر في العصر الأندلسيّ

عُرفت بيئة الأندلس بطبيعتها الخلّابة، وبتنوّع تضاريسها، بين سهولٍ، وجبالٍ ووديانٍ وهضابٍ وينابيع وأنهار، كما عُرفت بتعدُّد مناخاتها، ولعلّ هذا التّنوّع في تضاريسها ومناخاتها كان السّبب في تلوّن الأدب في العصر الأندلسيّ، وخاصّةً في الشّعر، ويظهر لنا هذا في شعر ابن خفاجة، وأتباعه في زمانه، ومن جاء قبله وبعده.[٣]


وقد تميَّز الأندلسيُّون في العصر الأندلسيّ بصفاتٍ شخصيّة خاصّة، فقد كانت الطّبيعة العنصر المؤثّر الفاعل في هذا التّميّز والتّفرّد، الّذي عُرف فيه الأندلسيّون، كما لعب الاختلاف العنصريّ في الأندلسِ دورًا بالغًا في تكوين شخصيّة الأندلسيّ. وقد نظر لسان الدّين بن الخطيب إلى الأندلسيين من خلال هذا الاختلاف في الطّبقات، دون الاهتمام بالفوارق العنصريّة بشكلٍ كبير، معتبرًا المستعربين من الأندلسيين الّذين حافظوا على دينهم من طبقة الأشراف.[٤]


ورأى العديد من النّقّاد والشّعراء أنّ الشّعر الأندلسيّ امتداد للشّعر الشّرقيّ، وذلك لأنّ الشّعر لدى الشّرقيّين كان مبلغ اهتمام الأندلسيّين، فنظموا على منواله ونهجه شكلًا ومضمونًا، وكانت أغراضهم الشّعريّة في المدح، والرّثاء، والغزل، والفخر، والهجاء، هي نفسها أغراض الشّعر الشّرقيّ، واعتمدوا على مضامين أشعارهم أيضًا، ولكن لكلّ بيئةٍ جوّها الخاصّ الّذي ينعكس على نتاجها الأدبيّ.[٥]


فنون الشّعر الأندلسيّ التّقليديّة

نظم الأندلسيّون في جميع فنون الشّعر العربيّ، إلّا أنّهم أضافوا فنونًا جديدة خاصّة بهم، تبعًا لبيئتهم المتفرّدة وأحوالهم المجتمعيّة، وعلى هذا فإنّه يمكننا تصنيف الفنون الشّعريّة في هذا العصر إلى ثلاث فئات: [٦]

  • أوّلًا: مجموعة الفنون التّقليديّة الّتي جارى فيها الأندلسيّون شعراء المشرق، مع وجود اختلافٍ في طريقة التَّعبير في بعض الأجزاء، والفنون هي: الغزل، والمدح، والرّثاء، والحكمة، والزّهد، والاستعطاف، والهجاء، والمجون.
  • ثانيًا: مجموعة الفنون التّقليديّة مع بعض التّوسُّع بالقول فيها، نظرًا لوجود مسبّبات ودواعي للتّوسّع في المجتمع الأندلسيّ، وهذه الفنون هي: الحنين، ووصف الطّبيعة، ورثاء المدن، والممالك، والشّعر العلميّ.
  • ثالثًا: مجموعة الفنون الشّعريّة المحدثة، وتتمثّل في الموشّحات، والأزجال، وشعر الاستغاثة، أو الاستنجاد.


قصيدة من الشعر الأندلسي

تعد نونية أبي البقاء الرندي من مراثي الأندلس، الّتي نظمها بعد سقوط آخر أراضي المسلمين في الأندلس، وبها يقول:[٧]


لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إنْسَانُ هِيَ الأمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءتْهُ أزْمَانُ وهذهِ الدارُ لا تُبْقي على أحدٍ ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ يُمَزق الدهرُ حتمًا كلَّ سابغةٍ إذا نَبَتْ مَشرَفِيات وخَرصانُ ويَنتَضي كلَّ سيفٍ للفناءِ ولو كانَ ابنَ ذي يَزَنٍ والغِمدَ غِمدانُ أينَ المُلوكُ ذوو التيجانِ من يَمنٍ وأينَ مِنْهُمْ أكَالِيلٌ وتِيجانُ وأينَ ما شَادَهُ شَدَّادُ في إرمٍ وأين ما سَاسَه في الفرس ساسانُ وأينَ ما حازَهُ قَارُونُ من ذَهَبٍ وأين عادٌ وشدادٌ وقحطانُ أتى على الكلِّ أمرٌ لا مَرَدَّ له حتى قضوا فكأنَّ القومَ ما كانوا وَصَارَ مَا كَانَ مِنْ مُلكٍ ومنْ مَلكٍ كما حَكَى عَنْ خيالِ الطيفِ وَسْنانُ دارَ الزمانُ على دارا وقاتله وأمَّ كسرى فما آواهُ إيوانُ كأنَّمَا الصَّعْبُ لَم يَسهُل لهُ سببُ يومًا وَلا مَلَكَ الدنيا سليمانُ فجائعُ الدهرِ أنواعٌ منوعةٌ وللزمانِ مَسَرَّاتٌ وأحزانُ وللحوادثِ سُلوانٌ يُسَهِّلُهَا وَمَا لِمَا حلَّ بالإسلامِ سُلوانُ دَهَى الجزيرةَ أمْرٌ لا عزاءَ لهُ هوى لهُ أُحدٌ وانهدَّ ثَهلانُ أصابَها العينُ في الإسلامِ فارتزأتْ حتّى خلتْ منهُ أقطارٌ وبلدانُ فاسألْ بَلَنْسِيَةَ ما شأنُ مُرسيةٍ وأينَ شاطبةٌ أمْ أينَ جيَّانُ وأينَ قرطبةٌ دارُ العلومِ فكَمْ مِنْ عالمٍ قَدْ سما فيها لهُ شانُ وأين حِمصُ وما تحويهِ مِنْ نُزَهٍ ونهرُها العذبُ فيّاضٌ وملآنُ قواعدٌ كُنَّ أركانَ البلادِ فما عسى البقاءُ إذا لمْ تبقَ أركانُ تبكي الحنيفيةُ البيضاءُ مِن أسفٍ كما بكى لفراقِ الإلفِ هَيمانُ عَـلى دِيـارٍ مِـنَ الإِسلامِ خالِيَةٍ قَـد أَقـفَرَتْ وَلَها بالكُفرِ عُمرانُ حيثُ المساجدُ قدْ صارتْ كنائسُ ما فيهنَّ إلّا نواقيسٌ وصُلبانُ حتى المحاريبُ تبكي وَهْيَ جامدةٌ حتى المنابرُ تَرثي وهْيَ عِيدانُ يا غافلاً ولهُ في الدهرِ موعظةٌ إنْ كنتَ في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ وماشيًا مرحًا يُلهيهِ موطنُهُ أبَعْدَ حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ تلك المصيبةُ أنْسَتْ ما تقدَّمها وما لها معَ طولِ الدهرِ نِسيانُ


المراجع

  1. الدّكتور محمّد رضوان الدَّاية، في الأدب الأندلسي، صفحة 10. بتصرّف.
  2. دكتور عثمان محمّد عثمان الحاج كنه، الأدب الأندلسيّ، صفحة 16-17. بتصرّف.
  3. الدّكتور محمّد رضوان الدّاية، في الأدب الأندلسيّ، صفحة 18. بتصرّف.
  4. الدّكتور جودت الرّكابي، في الأدب الأندلسيّ، صفحة 43. بتصرّف.
  5. حسن شوندى، التّقليد في الشّعر الأندلسيّ، صفحة 1. بتصرّف.
  6. حسن شوندى، التّقليد في الشّعر الأندلسيّ، صفحة 19-20. بتصرّف.
  7. أبي البقاء الرندي، رثاء الأندلس، صفحة 29-30.