الظّعن في العصر الجاهليّ
يُمثّل الظّعن في العصر الجاهليّ ذلك الصّراع الكائن ما بين الإنسان والبيئة الصّحراويّة من جهةٍ، والّذي يتمثّل في مظاهرها من رعيٍ وارتحالٍ وتنقّل، وجدبٍ، وجفاف، وبين الإنسان وأخيه من جهةٍ أخرى من حيث النّزاعات والحروب والخصومات. ونظرًا لكون المرأة العنصر الأضعف؛ فقد أولى العربيّ اهتمامًا بحياتها، وحرصًا على أمنها، وحال دون سبيها. وقد اتّخذ العربيّ في سبيل ذلك الجمل، الّذي يُعينه على مواجهة الحياة الشّاقّة عند الارتحال؛ فهو أكثر تحمّلًا للعطش والجوع، ثمّ ابتُدع الهودج، وحُملت المرأة فيه، ثمّ أطلق عليه لفظ "الظّعينة"، ثمّ أصبحت المرأة داخله تسمّى بالظّعينة. وصوّر الشّعر الجاهليّ رحلة الظّعائن هذه.[١]
رحلة الظّعائن
أولى الشّعراء الجاهليون اهتمامًا بالغًا في مستهلّ قصائدهم بوصف رحلة الظّعائن، ووصف ارتحال المحبوبة عن أهلها ووطنها أثناء هذه الرّحلة، حتّى أصبحت هذه المقدّمة تعبّر عن براعة الشّاعر، وإبداعه، وحسن تصويره، وقد لجأ الشّاعر في سبيل ذلك إلى التّمثّل بالأساليب الإنشائيّة، كالنّداء والاستفهام، وتوظيف أسلوب الحوار، والوصف، لتبسيط الصّورة للآخرين. وقد كان الشّاعر في سبيل ذلك يعمد إلى وصف مشاعره، وحرقته وحسرته الشّديدة لهذا الفراق النّاتج عمّا يقاسيه الإنسان في الصّحراء من صراع مع البيئة، أو مع بني الإنسان.[٢]
وخلاصة القول، إنّ الظّعينة هي نتاج صراع بين الإنسان وبيئته، أو الإنسان وأخيه الإنسان. والشّعر الجاهليّ مثّل هذا النّزاع بصوره، وبيّن أثره على الشّاعر، الّذي كان يتّخذ من المرأة عنصرًا أساسيًّا في مقدمّة شعره. حيث أولى الرّجل العربيّ اهتمامًا بالغًا بالمرأة، وسعى إلى حمايتها، وتوفير أسباب الرّاحة والاستقرار لها، وحرص على أن تبقى إلى جانبه في السّلم وفي الحرب، خاصّة أنّ المرأة كانت وما زالت تعتبر رمزًا للحياة والوجود.[٣]
الظّعينة في شعر العصر الجاهليّ
كانت للمرأة في العصر الجاهليّ مكانةً مميّزة، ظهرت ملامحها في الشّعر الجاهليّ، وتحديدًا بما يسمّى بشعر الظّعائن، والّذي كان يستهلّ بمشهد ارتحال المرأة في الظّعينة، وأثر هذا الارتحال في نفس الشّاعر، وقد كان هذا اللّون من القصائد يمثّل مشهدين أساسيّين، أوّلهما مشهد تأثّر الرّجل، وبكائه على الأطلال، ووصف دموعه، وحسرته وألمه، الأمر الّذي نجده مستهجنًا غريبًا في عصرنا هذا، فبكاء الرّجل لمثل هذا الأمر غير مستساغ في عصرنا، على عكس ما كان في العصر الجاهليّ، فقد كان أمرًا مقبولًا غير مستهجن، ولعلّ ذلك يعود إلى طبيعة الحياة وقساوتها في مثل ذلك الوقت، ممّا كان يستدعي التّعبير عن هذا الشّقاء والحزن، وقد يكون هذا المشهد من البكاء وذرف الدّموع مجرّد مشهد رمزيّ، يعبّر عن الحزن والحسرة. أمّا المشهد الثّاني، فكان للحظة استعداد المرأة للارتحال، ووصف انتقالها، وموكبها، ووصف الهودج وصفا دقيقًا، للستائر والألوان والتّفاصيل، ونوع الأقمشة المستخدمة.
فها هو امرؤ القيس يبكي الأطلال، ويذكر الحبيب والمنزل، والدّيار، ويصف المكان من بعد محبوبته، وقد أصبح جدبًا مقفرًا، بعد أن كان يعجّ بالحياة، ومن بين الأبيات الّتي يظهر فيها موقف امرئ القيس هذا، ما جاء في مقدّمة معلّقته:[٤]
وهذا يمثّل صورة من صور البيئة الصّحراويّة القاسيّة، وتأثيرها على كلّ من يسكنها، فيصبح دائم التّرحال والتّنقّل، ممّا كان يؤثّر تأثيرًا كبيرًا في شعر الشّعراء، الّذين كانوا يعانون من هذا التّنقّل والفراق.[٤]
وها هو الشّاعر الجاهليّ "عبيد بن الأبرص" يشبّه الظّعائن بالسّفينة، الّذي بدأ قصيدته كما هو معاد، بمقدّمة تصف الظّعائن، وقد بدأها بالغزل والنّسيب، وبثّ مشاعر الفراق من الأحبّة، ثمّ انتقل إلى وصف فرسه، ثمّ اختتم قصيدته بالتّغنّي بشجاعته في الحروب الّتي خاضها. وقد عرفت بنية المقدّمة الجاهليّة أنّها تحمل الكثير من الدّلالات النّفسيّة، الّتي تحتّم على الشّاعر أن يقولها، ومن الأمثلة على ذلك، قول عُبيد بن الأبرص في تشبيه الظّعينة بالسّفينة:[٥]
المنهج الأسطوريّ في قراءة شعر الظّعائن الجاهليّ
إنّ المنهج المعنيّ بدراسة الرّموز الخياليّة في الشّعر الجاهليّ، والأساطير، هو المنهج الأسطوريّ، والّذي يسعى بدوره إلى تحليل النّصوص الأدبيّة، وتأويل الصّور الفنّيّة ، ويُعنى باستقراء العقل الباطن، والّذي من شأنه أيضًا بيان صور الارتحال والفراق، والصّحراء البيئة القاسية، وبذلك يكون المنهج الأسطوريّ وسيلة لقراءة الشّعر الجاهليّ قراءة تحليليّة، وإظهار الرّموز والأبعاد، وفق ثلاث مراحل زمنيّة، وهي:[٦]
أوّلًا: مرحلة الفراق
تُظهر وقوف الشّاعر على أطلال محبوبته، ووصف رحيل الظّعائن، المتمثّل برحيل المرأة رمز الوجود والحياة، ووصف مرحلة الضّياع للظّعن اللّواتي لم ينلنَ أرضًا أو سماءً، تائهات وسط الصّحراء المقفرة، بلا أمنٍ أو استقرار، وهذا يظهر في قول الأعشى:[٦]
ثانيًا: مرحلة الرّحيل والضّياع
يصف فيها الشّاعر بشيءٍ من التّفصيل صور البيئة الصّحراويّة، الأرض الّتي جرى فيها الرّحيل. وهي المرحلة الّتي يصوّر فيها الشّاعر نفسه ضائعًا، على هامش الحياة، يعيش دون استقرار، وقد جسّدت أبعاد هذه المرحلة صورة النّاقة، والثّور الوحشيّ، والبقرة الوحشيّة، وصورة اللّيل والصّحراء، والمعلوم أنّ هذه المرحلة تُشعر صاحبها وكأنّه منبعثٌ إلى الحياة من جديد؛ إذ يقول امرؤ القيس في وصف النّاقة:[٦]
ويقول النّابغة في وصف الثّور الوحشيّ:[٦]
ثالثًا: مرحلة الاندماج أو البحث عن الذّات
وهي الّتي تتضمّن كلًّا من المرأة والماء والخمر والفرس.
المراجع
- ↑ الدّكتورة درّيّة عبد الحميد حجازي، الظّعينة في شعر العصر الجاهليّ، صفحة 1063. بتصرّف.
- ↑ سديرة سهام، مقطع الرّحلة في القصيدة الجاهليّة دراسة سيميائيّة، صفحة 86. بتصرّف.
- ↑ الدّكتورة درّيّة عبد الحميد حجازي، الظّعينة في الشّعر الجاهليّ، صفحة 1098. بتصرّف.
- ^ أ ب الدكتورة درية عبدالحميد حجازي، الظعينة في شعر العصر الجاهلي، صفحة 1083. بتصرّف.
- ↑ عبدالحميد محمّد عامر، المكوّن الحسّيّ في الصّورة الشّعريّة القديمة، صفحة 51-52. بتصرّف.
- ^ أ ب ت ث الدّكتورة غيثاء قادرة، المنهج الأسطوريّ في قراءة الشّعر الجاهليّ، صفحة 1-9. بتصرّف.