اتجاهات الشِّعر الأندلسيِّ
شاع الشِّعر في العصر الأندلسيّ ولم يكنْ محصورًا على الشُّعراء المحترفين فقط؛ إذْ شارك الشعراءَ الأمراءُ والوزراءُ، والكتّابُ والفقهاءُ والفلاسفةُ، والأطبّاءُ وأهلُ النّحو واللّغة، وذلك بسبب الطّبيعة الأندلسيّة الّتي عُرفت بجمالها الخلّاب، ممّا كان يبعثُ الرّغبة في نفوس الشّعراء لنظم الشّعر، بما يستثيره من عواطفهم المتأجّجة، فيحرّك خيالهم، ويلهمهم الشّعر. ولم يكن أمرُ شيوع الشّعر في الأندلس بسبب الطّبيعة الأندلسيّة فقط، فقد كان يُعرف المجتمع الأندلسيّ بتكوينه الثّقافيّ، القائم على علوم العربيّة وآدابها. ومن الجدير بالذّكر، أنّ الشّعر الأندلسيّ في نهجه، قد اتّخذ اتجاهاتٍ شعريّةً ثلاثة، تتمثّلُ في الاتّجاه المحافظ، والاتّجاه المحدث، والاتّجاه المحافظ الجديد.[١]
الغزل في العصر الأندلسيّ
تميّز الشّعرُ في العصر الأندلسيّ بالرّقّة، وجمال الأسلوب، وعنصر الخيال، كما تميّز بتعدّد أغراضه، كالغزل، والمديح، والهجاء، والرّثاء، وغيرها، أمّا الغزل والنّسيب، فهو يتصدّر مقدّمة هذه الأغراض، وذلك بسبب توافر عدّة عوامل، منها: التّرف، وكثرة الجواري والغلمان، بالإضافة إلى الطّبيعة الأندلسيّة الخلّابة. وكانت قصيدة الغزل، غالبًا ما تُلقى في مجالس اللّهو والطّرب، وفي ليالي الأنس الّتي لا تخلو من الموسيقى والغناء. وقد اعتمد الأندلسيّون أيضًا إلى توظيف غرض الوصف إلى جانب الغزل، وغالبًا ما كانوا يقرنون هذين الغرضين معًا، فعندما يريد الشّاعر أن يتغزّل بامرأة، كان يلجأ إلى وصفها بأوصاف الطّبيعة، فالمرأة عندهم صورة من محاسن الطّبيعة.[٢]
أنواع الغزل في الشّعر الأندلسيّ
لأنّ الغزل من الأغراض الشّعريّة الّتي كثر النّظم فيها قديمًا وحديثًا، فقد تعددت أنواعه، كالآتي:[٣]
- أوّلًا: الغزل الطّاهر العفيف، يصوّر فيه الشّاعر خلجات النّفس، وفرحة اللّقاء، ويصف ما يلاقيه من ألم وعذاب الغرام، ولوعة الحبّ، ويُطلق على هذا النّوع من الغزل أيضًا اسم الغزل الموضوعيّ؛ وذلك لأنّ الشّاعر المتغزّل لا يتطرّق إلى ذكر جوانب حسّيّة في محبوبته.
- ثانيًا: الغزل الحسِّيّ، وهو ضرب من الغزل، يلجأ فيه الشّاعر إلى التّطرّق إلى جوانب حسّيّة ونفسيّة في المحبوبة، كأن يتغزّل بجمال عيون محبوبته، وطول قامتها، وجمال مبسمها، وخصرها وحركتها، وحديثها، وقد يلجأ الشّاعر أيضًا إلى تصوير العوائق الّتي تحول بينه وبين محبوبته، كالأهل والوشاة والعذّال، فيبدي الشّاعر تصويرًا لتحايله من أجل رؤيتها ليلًا والنّاس نيام، ويختلس لوصلها اختلاسًا.
- ثالثًا: الغزل بالمذكّر، وهو نوعٌ من الغزل، عرفه العرب في العصر العباسيّ، نتيجة للاختلاط بأقوام غير عربيّة، وكثرة الجواري، إلى أن انتقل إلى الأندلس، والّذين لم يجدوا فيه عيبًا، فقد كان أمرًا طبيعيًّا، نظم فيه الشّعراء والفقهاء، فلم تكن المنزلة الاجتماعيّة والدّينيّة تمنعهم من الميل إلى الغلمان والغزل بهم. وممّا ساعد على انتشاره: تردّد الشّعراء إلى الحانات، بالإضافة إلى وجود الغلمان في البيوت للخدمة، فضلا عن قيام بعضهم بالطّلب من الشّعراء بالتّغزّل بغلمانهم، وقد يكون هذا الانتشار لهذا النّوع من الغزل راجعا إلى التّقليد الشّعريّ، دون أيّ تحرُّج.
شعر الغزل عند الشّاعرات الأندلسيَّات
وقفت الشّاعرات الأندلسيّات إلى جانب الشّعراء، في كتابة شعر الغزل، حيثُ يُشكّل الغزل ثلث شعرهنّ، وقد بلغ عدد الشّاعرات ما يُقاربُ خمسًا وعشرين شاعرة.[٤]
ومن اللّافت للنّظر أنّ الشّاعرة الأندلسيّة تعاملت بنديّة مع حبيبها؛ إذ تغزّلت به في شعرها، كما كان الشّاعر يتغزّل بحبيبته، وأفصحت عن مشاعرها، وتجرّأتْ في إظهار لوعتها دون خوفٍ أو خجل. ومن ذلك ما قالته الشّاعرة حفصة بنت حمدون:[٥]
لي حبــيـــب لا يَنْثَنــي لعتـــــابٍ وإذا مــا تـركـتـــه زادَ تـيـــهـــا
قال لي هل رأيت لي من شبيهٍ قلت أيضًا وهل ترى لي شبيها
واتّسم شعر الغزل لدى شاعرات الأندلس برقّة الطّباع والمشاعر. فقد كنّ يملن إلى استخدام معجم شعريّ عاطفي، وتكرّرتْ لديهنّ ألفاظ الحبّ، مثل: حبّي، الحبّ، لوعة الحبّ، حبيب، وجد، صبّ، رام، قلبي، أغار، عشقت، هام، الغرام، شغف الفؤاد، كلّفت بكم، أهواه، أشتاق، الشّوق، التّشوّق. وألفاظ الفراق مثل: الصبر، تظمأ، نازح، ينساكم، موجع القلب، الحزن، أشجاناً، أبكي، حنيناً، الحنين، بكى، انفصال، يأس، الهم، الممات، الموت، وحشة، ودعتهم، ودع، فراقكم، التفرق، فارقني، هجران، يشكو، البين، البعد، النوى، بعدك. وألفاظ العتاب: عذري، الملامة، عتاب، اعتذاري، الذّنوب.[٦]
مختارات من شعر الغزل
من النّماذج الشّعريّة الشهيرة على الغزل، قصيدة "سلوْتمْ وبقيْنا نحنُ عشّاقا" لابن زيدون. يذكرُ فيها ولّادة ويتشوّق إليها، وقد نظمها على بحر البسيط.[٧]
إنّــي ذكرتــكِ بالزَّهــراء مـشــتــاقـــــا والأفقُ طلقٌ ومرأى الأرضِ قد راقــــا
وللنّــــسيـــمِ اعتــلالٌ في أصائـلــــــــهِ كـأنّـــهُ رقَّ لــي فاعـتــلّ إشْــفــاقـــــــا
والرَّوض عن مائــهِ الفضــِّيِّ مبـتســـمٌ كمــا شقّقــــــــتْ عن اللّبــاتِ أطــواقـا
يومٌ كأيّامٍ لــذاتٍ لنــا انصـــرمــــــــتْ بتنــا لهــا حيــن نام الدّهــر ســـرّاقــــا
نلهو بما يستميــلُ العيـــن مــن زهــــرٍ جال النّدى فيه حتّـــى مــال أعنــــاقـــا
كأنّ أعينــهُ إذ عــاينـــــتْ أرقـــــــــي بكــتْ لمـا بـي فجــال الدّمع رقــراقـــا
وردٌ تألّـــق فـــي ضاحي منابتــــــِـــهِ فازدادَ منه الضحى في العينِ إشــراقــا
ســــرى ينــــــافحــُـه نيلوفر عــبــــقُ وسنـــان نبـــهَ منـــهُ الصُّبــحُ أحــداقــا
كلٌّ يهيــج لـنــا ذكــرى تشــوقــّــنــــا إليك، لم يعدْ عنها الصدرُ أن ضـاقـــــا
لا سكــنَ الله قلـبًــا عــقّ ذكــركــــــم فلــم يطــرْ بجــنــاحِ الشّــوق خفّــاقـــا
لو شاءَ حملي نسيم الريحِ حين سرى وافــاكــمُ بفــتـــى أضنـــاهُ مـا لاقــــى
لو كانَ وفى المنى في جمعنا بكـــــمُ لكـــانَ من أكــرمِ الأيّـــام أخـــلاقـــــا
المراجع
- ↑ عائشة إبراهيم موسى سلامة محسن، صورة المرأة في الشّعر الأندلسيّ، في عصري الطوائف وبني الأحمر، صفحة 20. بتصرّف.
- ↑ الدّكتور محمّد عبّاسة، الموشّحات والأزجال الأندلسيّة وأثرها في شعر التروبادور، صفحة 29. بتصرّف.
- ↑ قصي سالم علوان، فالح حمد أحمد، شيماء هاتو فعل، صورة الغزل الأندلسيّ في شعر بني الأحمر، صفحة 1-4. بتصرّف.
- ↑ الدكتورة وفاء بنت إبراهيم السبيل ، شعر الغزل عند الشاعرات الأندلسيات وشاعرات التّروبادور، صفحة 39. بتصرّف.
- ↑ وفاء بنت إبراهيم السبيل، شعر الغزل عند الشاعرات الأندلسيات وشاعرات التروبادور، صفحة 41. بتصرّف.
- ↑ وفاء بنت إبراهيم السبيل ، شعر الغزل عند الشاعرات الأندلسيات وشاعرات التروبادور، صفحة 48. بتصرّف.
- ↑ شرح الدّكتور يوسف فرحات، ديوان ابن زيدون، صفحة 194.