يُعدُّ العَصرُ العَباسيِّ عَصرُ النَّهضةِ والازدِهارِ في الآداب العربيّة، إذ كانَ حافِلًا بِمُختَلفِ التيّارات الأدبيّة والفكريّة والعلميّة.[١] وعلى الرّغم مِن أنَّ الثَّقافات المُترجمة صبغت الحياة العقليّة والاجتماعيّة، إلّا أنّ تأثيرَها على اللغة والأدبِ كان مُتفاوِتًا، كما أنَّ الثقافات الحديثة كانَت قد طغت موجتها على شتى أمور الحياة في العصر العباسيِّ إلّا أنَّ اللغة العربيّة ظلّت مُحافِظةً على رَونَقِها، وبَقيت هي لُغة التّفكيرِ والأدب، كما حافظت مناهج الأداء، والأساليب، ولغة الكتابة والشعر على نضجها من حيث معاني الكُتّاب، وخَيالاتِ الشُّعراء، وعمق صياغتهم الذهنيّة، وتفكيرهم العقليّ.[٢]


الشِّعر في العصر العباسيِّ

شَهدت الحياةُ الأدبيَّةُ في العصرِ العباسيِّ تقدُّمًا وازدهارًا ملحوظًا، لاسيّما بعد انتشار الثَّقافةِ الإسلاميَّةِ، والتَّوسُّع الحضاريِّ، وانفتاح النَّاس على عوالم جديدة من المَعرفة، وكانَ الشّعر في العَصرِ العباسيِّ بمثابَةِ المرآة الّتي انعكست عليها صُّوَرُ الحياةِ وأحداثها، حيثُ كَثُر نظم الشِّعرِ في هذا العَصر، وشهدت أعداد الشُّعراء زيادَةً ملحوظة، حيثُ لم يوجد لَها نظير في أيِّ عصرٍ آخر، أما بالنِّسبة للفُنون الشِّعريَّة فإنَّها تكادُ تكونُ نفسُها، وإن دخلها شيء من التَّطوير، فإننا نجِدُ فيها المَديح، الهجاء، الرِّثاء، كما نجِدُ الغزل، والوصف، والطرد، وغيرُها من الفُنون الشِّعريّةِ. [٣]


عوامل ازدهار الشِّعر العباسيِّ

ظلّ الشِّعرُ في نموٍّ وازدهار إلى أن وصل إلى الصُّورة المِثاليَّةِ في العصرِ العباسيِّ، ومن العوامل الّتي ساعدت على هذا الازدهار:[٤]

  • حُبُّ الخلفاء للشعر، وتقديرهم للشُّعراء، كما أنهم شجّعوا على النَّظمِ والإنشاد، فأغدقوا الأموال والعطايا عليهم.
  • الثَّقافة العالية الّتي تمتع بها الخُلفاء في تِلكَ الفترة، حيثُ أنَّهم شاركوا في نظم الشِّعر وتدبيج النَّثر، وأصبحت مجالس الخلفاء منتدىً للأدباء.
  • تمتُّع الشُّعراء بالحريَّة الواسِعة في ساحةِ النَّظم، إذ عبروا عن خيالهم، وعواطفهم، ومشاعرهم دون خوفٍ أو وجل.


الموضوعات الشعريَّة في العصر العباسيِّ

تنوّعت الموضوعات الشِّعريَّة في العَصر العَباسيِّ، ومنها:

  • المَديح [٥]: يُعتَبَرُ المَديحُ من أبرَز الفنون الشِّعريَّةِ مُنذُ عصر ما قَبل الإسلام، ولمّا جاءَ العباسيِّون فتَحوا الأبوابَ على مِصراعيها لِلشُعراءِ المدّاحين لِكي يدخلوها، ومِثالٌ على ذلك قول الشّاعر: لَهم طينة بيضاءُ من آل هاشمٍ إذا اسود من كوم التّرابِ القبائلُ.
  • الهِجاء [٦]: يُعدُّ الهِجاءُ فناً أدبياً قديماً رافقَ المَديح، وتنوّعت موضوعاته واختلَفت اتّجاهاته، والكَثيرُ منه كانَ شخصيًّا، يدفعه الحقد والغضب، ومِثالٌ على ذلك قول الشّاعر: وأعمى يُشبِهُ القرد إذا ما عمي القرد.
  • الرّثاء[٧]: فنٌّ أدبيّ يُعبِّرُ عنِ الألَمِ والتَّوجُّع والتَّأسُّف، وكانَ للشُّعراءِ العباسيين نصيبٌ وافرٌ فيه. ومثالٌ على ذلك قول الشّاعر:


ويلي عليك وويل أهلي كُلّهمْ ويلًا وهولًا في الحياةِ طويلًا.

  • الغزل [٨]: يُعدّ من الفنون الشعريّة المُحبَّبة إلى النَّفس. ومِثالٌ على ذلك قول الشَّاعر:


سلِ الله صبرًا واعترف بفراق عسى بعدَ بين أنْ يكون تلاق.

  • الزُّهد والتّصوُّف[٩]: إن ظاهرة الزُّهد ليست جديدة على العصر العَباسيِّ، فإنَّ التّابِعينَ والصَّحابة كانوا زُهادًا. ومِثالٌ على ذلك قول الشّاعِر:


يا طالب العلم بادر الوَرَعا وهاجر النَّوم واهجر الشبَعا.

  • الشِّعر الفُكاهيّ [١٠]: وجدت الفكاهة مجالًا رحبًا في العصر العباسيِّ. ومِثالٌ على ذلك قول الشّاعِر:


رأيتُ الفضل مكتئبًا يُناغي الخُبزَ والسَّمكا.

  • الشِّعر التعليميّ [١١]: ظهرَ هذا النّوع في العصرِ العباسيّ، تسهيلًا لحفظ العلوم، كما أنه يفتقرُ إلى العاطفة والخيال. ومِثالٌ على ذلك قول الشّاعر:


هذا كِتابُ الصَّومِ وهو جامعُ لكلِّ ما قامت بهِ الشَّرائعُ.



خصائص الشِّعر العباسيِّ

تميَّزَ الشِّعر في الفترةِ العباسيّة بخصائص عدّة منها:

  • المُقدِّمة الطللية: استهلّت الأطلال أغلب القَصائد الشعريّة، فحملت بين ثناياها دلالاتٍ عميقة، كالفناء، الرحيل، والألم، وكانَ قدْ تمسَّكَ بها البدو في

العصر العباسي.[١٢]

  • التّجديد في الأسلوب: للشعر في هذا العصر أسلوبان متناقضان، أوَّلهما أُسلوبٌ يتميَّز بالبُعدِ عنِ التَّكلف، والحِرص على الوحدة الموضوعيّة، أما عن ثانيهما، فأسلوبٌ يتميَّز بوضوح الخصائص الفنيَّة، كالصَّنعة والتّقليد.[١٣]
  • التجديد في المعاني والأفكار: ازدحم الشِّعر في العصر العباسي بالمعاني والأفكار، والصّور والأخيلة، كما لجؤوا إلى الصّور الشعريّة الّتي نجدُ فيها الجدّة والطرافة.[١٤]
  • الأوزان والقوافي: أَلمَّ الشُّعراء العباسيّون بالأوزان الشعريّة، ونظموا الشعر على تفعيلاتها، كما استحدثوا أوزانًا جديدة ملائمة للأذواق آنذاك.[١٥]
  • الموسيقى الدَّاخليَّة: تأثّر الشّعراء في العصر العباسيّ بشعراء الجاهليّة، من حيث الموسيقى الدّاخليَّة، كما أنّ للموسيقى الدّاخليّة أساليبٌ مُتنوّعة منها تكرار اللّفظ، الترصيع والتصريع.[١٦]


أبرز شُعراء العصر العَباسيِّ

لِكلِّ عصرٍ شُعراءٌ يُميِّزونَهُ، وأبرزُ شُعراء العصرِ العباسيٍّ هُمُ:[١٧]

  • أبو العتاهية.
  • أبو عُبادةَ البُحتُريِّ.
  • ابنُ الروميِّ.
  • مسلم بِن الوليد.
  • أبو تمام الطائيّ.
  • عبد الله بن المُعتزّ.


نموذج لقصيدة من العصر العباسيّ

قول الشّاعر أبو تمام:[١٨]

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ

وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ

أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ

تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ

عَجائِباً زَعَموا الأَيّامَ مُجفِلَةً عَنهُنَّ في صَفَرِ الأَصفارِ أَو رَجَبِ

وَخَوَّفوا الناسَ مِن دَهياءَ مُظلِمَةٍ إِذا بَدا الكَوكَبُ الغَربِيُّ ذو الذَنَبِ

وَصَيَّروا الأَبرُجَ العُليا مُرَتَّبَةً ما كانَ مُنقَلِباً أَو غَيرَ مُنقَلِبِ

يَقضونَ بِالأَمرِ عَنها وَهيَ غافِلَةٌ ما دارَ في فُلُكٍ مِنها وَفي قُطُبِ

لَو بَيَّنَت قَطُّ أَمراً قَبلَ مَوقِعِهِ لَم تُخفِ ما حَلَّ بِالأَوثانِ وَالصُلُبِ

وَبَرزَةِ الوَجهِ قَد أَعيَت رِياضَتُها كِسرى وَصَدَّت صُدوداً عَن أَبي كَرِبِ

بِكرٌ فَما اِفتَرَعتَها كَفُّ حادِثَةٍ وَلا تَرَقَّت إِلَيها هِمَّةُ النُوَبِ

مِن عَهدِ إِسكَندَرٍ أَو قَبلَ ذَلِكَ قَد شابَت نَواصي اللَيالي وَهيَ لَم تَشِبِ

حَتّى إِذا مَخَّضَ اللَهُ السِنينَ لَها مَخضَ البَخيلَةِ كانَت زُبدَةَ الحِقَبِ

أَتَتهُمُ الكُربَةُ السَوداءُ سادِرَةً مِنها وَكانَ اِسمُها فَرّاجَةَ الكُرَبِ

جَرى لَها الفَألُ بَرحاً يَومَ أنقرةٍ إِذ غودِرَت وَحشَةَ الساحاتِ وَالرُحَبِ

لَمّا رَأَت أُختَها بِالأَمسِ قَد خَرِبَت كانَ الخَرابُ لَها أَعدى مِنَ الجَرَبِ

كَم بَينَ حيطانِها مِن فارِسٍ بَطَلٍ قاني الذَوائِبِ مِن آني دَمٍ سَرَبِ

بِسُنَّةِ السَيفِ وَالخَطِيِّ مِن دَمِهِ لا سُنَّةِ الدينِ وَالإِسلامِ مُختَضِبِ

لَقَد تَرَكتَ أَميرَ المُؤمِنينَ بِها لِلنارِ يَوماً ذَليلَ الصَخرِ وَالخَشَبِ

المراجع

  1. محمد عبد المنعم خفاجي، الحياة الأدبيّة في العصر العباسي، صفحة 9. بتصرّف.
  2. محمد عبدالمنعم الخفاجي، الحياة الأدبيّة في العصر العباسيّ، صفحة 28. بتصرّف.
  3. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 21. بتصرّف.
  4. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 18-20. بتصرّف.
  5. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 21-22. بتصرّف.
  6. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 29-30. بتصرّف.
  7. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 34-35. بتصرّف.
  8. دكتور ناظم رشيد، الأدب العربي في العصر العباسي، صفحة 41-42. بتصرّف.
  9. الدكتور ناظم الرشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 52-53. بتصرّف.
  10. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيِّ، صفحة 66-67. بتصرّف.
  11. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 69-70. بتصرّف.
  12. جامعة السّودان للعلوم والتكنولوجيا/مدينة الزبير، الشّعراء البدو في العصر العباسي الأول، صفحة 155-156. بتصرّف.
  13. جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا/ مدينة الزبير، الشعراء البدو في العصر العباسي الأول، صفحة 180. بتصرّف.
  14. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 73. بتصرّف.
  15. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربي في الشعر العباسيّ، صفحة 83-84. بتصرّف.
  16. جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا/مدينة الزبير، الشُّعراء البدو في العصر العباسي الأول، صفحة 184-185. بتصرّف.
  17. الدكتور ناظم رشيد، الأدب العربيّ في العصر العباسيّ، صفحة 88-140. بتصرّف.
  18. حبيب بن أوس، ديوان أبي تمام الطائيّ، صفحة 7-8. بتصرّف.