تقاسمت فدوى طوقان مع المقاومين ومجموعة من الشعراء الفلسطينين ساحة النضال الشعبي؛ إذ أطلّت بشِعْرِها وقصائدها مصورة معاناة شعبها الفلسطيني والألم والظلم الذي يتعرّض له من الاحتلال، ورسمت همومه، وأظهرت أيضًا مشاعر الحب تجاه هذا الوطن مسلوب الحقّ، وقد قدّمنا في هذا المقال مجموعة من قصائد فدوى طوقان التي سطّرتها في وطنها فلسطين.


قصيدة حرية الشعب

تقول فدوى طوقان في هذه القصيدة:[١]

نشيد:

حريتي!

حريتي!

حريتي!

صوتٌ أردده بملء فم الغضب

تحت الرصاص وفي اللهب

وأظل رغم القيد أعدو خلفها

وأظل رغم الليل أقفو خطوها

وأظل محمولاً على مدّ الغضب

وأنا أناضل داعياً حريتي!

حريتي!

حريتي!

ويردد النهر المقدس والجسور

حريتي!

والضفتان ترددان: حريتي!

ومعابر الريح الغضوب

والرعد والإعصار والأمطار في وطني

ترددها معي:

حريتي! حريتي! حريتي!


***

سأظل أحفر اسمها وأنا أناضل

في الأرض في الجدران في الأبواب في شرف المنازل

في هيكل العذراء في المحراب في طرق المزارع

في كل مرتفعٍ ومنحدر ومنعطف وشارع

في سجن في زنزانة التعذيب في عود المشانق

رغم السلاسل رغم نسف الدور رغم لظى الحرائق

سأظل أحفر اسمها حتى أراه

يمتد في وطني ويكبر

ويظل يكبر

ويظل يكبر

حتى يغطي كل شبر في ثراه

حتى أرى الحرية الحمراء تفتح كل باب

والليل يهرب والضياء يدك أعمدة الضباب

حريتي!

حريتي

ويردد النر المقدس والجسور:

حريتي!

والضفتان ترددان: حريتي!

ومعابر الريح الغضوب

والرعد والإعصار والأمطار في وطني

ترددها معي:

حريتي حريتي حريتي


قصيدة حمزة

تقول فيها فدوى طوقان:[٢]

كان حمزهْ

واحدًا من بلدتي كالآخرين

طيّبًا يأكل خبزهْ

بيد الكدح كقومي البسطاء الطيبين


***

قال لي حين التقينا ذات يومٍ

وأنا أخبط في تيه الهزيمهْ:

اصمدي، لا تضعفي يا ابنة عمي

هذه الأرض التي تحصدها -

نار الجريمهْ

والتي تنكمش اليوم بحزنٍ وسكوتْ

هذه الأرض سيبقى

قلبها المغدور حيًا لا يموتْ


***

هذه الأرض امرأة

في الأخاديد وفي الأرحام -

سر الخصب واحد

قوَّةُ السرِّ التي تُنبتُ نخلاً -

وسنابل

تُنبتُ الشعب المقاتلْ


***

دارت الأيام لم ألتق فيها -

بابن عمّي

غير أنّي كنتُ أدري

أَنَّ بطن الأرض تعلو وتميدْ

بمخاضٍ وبميلادٍ جديدْ


(2)


كانت الخمسة والستُّون عامْ

صخرةً صمّاءَ تستوطن ظهرهْ

حين ألقى حاكمُ البلدة أمرهْ:

(انسفوا الدار وشدّوا

ابنه في غرفة التعذيب!) ألقى

حاكم البلدة أمرهْ

ثم قام

يتغنّى بمعاني الحبَّ والأمنِ -

وإحلال السلام!


***

طوَّق الجندُ حواشي الدار -

والأفعى تلوَّتْ

وأتمّت ببراعهْ

اكتمال الدائرهْ

وتعالت طرقاتٌ آمرهْ:

(اتركوا الدار)! وجادوا بعطاء

ساعةٍ أو بعض ساعهْ


***

فتّح الشرفات حمزهْ

تحت عين الجند للشمس وكبّر

ثم نادى:

(يا فلسطين اطمئني

أنا والدار وأولادي قرابين خلاصكْ

نحن من أجلك نحيا ونموت)

وسرت في عصب البلدة هزَّهْ

حينما ردَّ الصدى صرخة حمزهْ

وطوى الدارَ خشوعٌ وسكوت


***

ساعةٌ، وارتفعت ثم هوت

غرفُ الدار الشهيدهْ

وانحنى فيها ركام الحجرات

يحضنُ الأحلام والدفء الذي كان -

ويطوي

في ثناياه حصاد العمر، ذكرى

سنوات

عمرت بالكدح، بالإصرار؛ بالدمعِ -

بضحكات سعيدهْ

أمس أبصرتُ ابنَ عمي في الطريقْ

يدفَعُ الخطو على الدرب بعزمٍ ويقينْ!

لم يزل حمزَةُ مرفوعَ الجبينْ

كفاني أظل بحضنها

كفاني أموت على أرضها

وأُدفنُ فيها

وتحت ثراها أذوب وأفنَى

وأبعثُ عشبًا على أرضها

وأبعثُ زهرهْ

تعيثُ بها كف طفلٍ نمتْهُ بلادي

كفاني أظل بحضن بلادي

ترابًا

وعشبًا

وزهرهْ


قصيدة مع لاجئة في العيد

في هذه القصيدة تقول فدوى طوقان:[٣]

أختاه، هذا العيد رفَّ سنه في روح الوجود

وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيد

وأراك ما بين الخيام قبعت تمثالا شقياً

متهالكاً، يطوي وراء جموده ألماً عتيّا

يرنو إلى اللاشيء... منسرحاً مع الأفق البعيد

أختاه، مالك إن نظرت إلى جموع العابرين

ولمحت أسراب الصبايا من بنات المترفين

من كل راقصة الخطي كادت بنشوتها تطير

العيد يضحك في محيّاها ويلتمع السرور

أطرقت واجمة كأنك صورة الألم الدفين؟

أختاه، أيّ الذكريات طغت عليك بفيضها

وتدّفعت صوراً تثيرك في تلاحق نبضها

حتى طفا منها سحاب مظلم في مقلتيك

يهمي دموعاً أو مضت وترجرجت في وجنتيك

يا للدموع البيض! ماذا خلف رعشة ومضها؟

أترى ذكرت مباهج الأعياد في (يافا) الجميلة؟

أهفت بقلبك ذكريات العيد أيام الطفولة؟

إذ أنت كالحسون تنطلقين في زهوٍ غرير

والعقدة الحمراء قد رفّتْ على الرأس الصغير

والشعر مسندلٌ على الكتفين، محلول الجديلة؟

إذ أنت تنطلقين بين ملاعب البلد الحبيب

تراكضين مع اللّدات بموكب فرح طروب

طوراً إلى ارجوحة نُصبت هناك على الرمال

طوراً إلى ظل المغارس في كنوز البرتقال

والعيد يملأ جوّكن بروحه المرح اللعوب؟

واليوم؛ ماذا غير قصة بؤسكن وعارها؟

لا الدار دارٌ، لا، ولا كالأمس، هذا العيد عيدُ

هل يعرف الأعياد أو أفراحها روحٌ طريد

عان، تقلّبه الحياة على الجحيم قفارها؟

أختاه، هذا العيد عيد المترفين الهانئين

عيد الألي بقصورهم وبروجهم متنعمين

عيد الألي لا العار حرّكهم، ولا ذلّ المصير

فكأنهم جثث هناك بلا حياة أو شعور

أختهاه، لا تبكي، فهذا العيد عيد الميّتين!


قصيدة مدينتي الحزينة

تقول فيها فدوى طوقان:[٤]

تراجع المدُّ

وأُغلقت نوافذُ السماءْ

وأمسكتْ أنفاسها المدينهْ

يوم اندحار الموج، يوم أسلمتْ

بشاعة القيعانِ للضياءِ وجهَها

ترمّد الرجاءْ

واختنقتْ بغصَّة البلاءْ

مدينتي الحزينهْ


***

اختفت الأطفال والأغاني

لا ظلَّ، لا صدى

والحزن في مدينتي يدبُّ عاريًا

مخضَّب الخطى

والصمتُ في مدينتي،

الصمتُ كالجبال رابضٌ،

كالليل غامضٌ، الصمت فاجعٌ -

محمّلٌ

بوطأة الموت وبالهزيمهْ

أواه يا مدينتي الصامتة الحزينهْ

أهكذا في موسم القطافْ

تحترق الغلال والثـّمار؟

أوّاه يا نهاية المطاف!


قصيدة لن أبكي

تقول فدوى طوقان:[٥]

على أبواب يافا يا أحبائي

وفي فوضى حطام الدور

بين الردمِ والشوكِ

وقفتُ وقلتُ للعينين:

قفا نبكِ

على أطلال من رحلوا وفاتوها

تنادي من بناها الدار

وتنعى من بناها الدار

وأنّ القلبُ منسحقاً

وقال القلب: ما فعلتْ؟

بكِ الأيام يا دارُ؟

وأين القاطنون هنا

وهل جاءتك بعد النأي، هل

جاءتك أخبارُ؟

هنا كانوا

هنا حلموا

هنا رسموا

مشاريع الغدِ الآتي

فأين الحلم والآتي وأين همو

وأين همو؟

ولم ينطق حطام الدار

ولم ينطق هناك سوى غيابهمو

وصمت الصَّمتِ، والهجران

وكان هناك جمعُ البوم والأشباح

غريب الوجه واليد واللسان وكان

يحوّم في حواشيها

يمدُّ أصوله فيها

وكان الآمر الناهي

وكان… وكان…

وغصّ القلب بالأحزان


******

أحبائي

مسحتُ عن الجفون ضبابة الدمعِ

الرماديهْ

لألقاكم وفي عينيَّ نور الحب والإيمان

بكم، بالأرض، بالإنسان

فواخجلي لو أني جئت ألقاكم

وجفني راعشٌ مبلول

وقلبي يائسٌ مخذول

وها أنا يا أحبائي هنا معكم

لأقبس منكمو جمره

لآخذ يا مصابيح الدجى من

زيتكم قطره

لمصباحي

وها أنا أحبائي

إلى يدكم أمدُّ يدي

وعند رؤوسكم ألقي هنا رأسي

وأرفع جبهتي معكم إِلى الشمسِ

وها أنتم كصخر جبالنا قوَّه

كزهر بلادنا الحلوه

فكيف الجرح يسحقني؟

وكيف اليأس يسحقني؟

وكيف أمامكم أبكي؟

يميناً، بعد هذا اليوم لن أبكي!


*******

أحبائي حصان الشعب جاوزَ

كبوة الأمسِ

وهبَّ الشهمُ منتفضاً وراء النهرْ

أصيخوا، ها حصان الشعبِ

يصهلُ واثق النّهمه

ويفلت من حصار النحس والعتمه

ويعدو نحو مرفأه على الشمسِ

وتلك مواكب الفرسان ملتمَّه

تباركه وتفديه

ومن ذوب العقيق ومنْ

دم المرجان تسقيهِ

ومن أشلائها علفاً

وفير الفيض تعطيهِ

وتهتف بالحصان الحرّ: عدوا يا

حصان الشعبْ

فأنت الرمز والبيرق

ونحن وراءك الفيلق

ولن يرتدَّ فينا المدُّ والغليانُ

والغضبُ

ولن ينداح في الميدان

فوق جباهنا التعبُ

ولن نرتاح، لن نرتاح

حتى نطرد الأشباح

والغربان والظلمه


*******

أحبائي مصابيحَ الدجى، يا إخوتي

في الجرحْ ...

ويا سرَّ الخميرة يا بذار القمحْ

يموت هنا ليعطينا

ويعطينا

ويعطينا

على طُرقُاتكم أمضي

وأزرع مثلكم قدميَّ في وطني

وفي أرضي

وأزرع مثلكم عينيَّ

في درب السَّنى والشمسْ

المراجع

  1. "حرية الشعب"، بوابة الشعراء. بتصرّف.
  2. فدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة لفدوى طوقان، صفحة 419. بتصرّف.
  3. فدوى طوقان، الأعمال الشعرية كاملة لفدوى طوقان، صفحة 112. بتصرّف.
  4. فدوى طوقان، الأعمال الشعرية الكاملة لفدوى طوقان، صفحة 372. بتصرّف.
  5. "لن أبكي"، بوابة الشعراء. بتصرّف.