مناسبة قصيدة الأرملة المرضعة

يصوّر الشاعر معروف الرصافي في هذه القصيدة المعنونة بـ "الأرملة المرضعة" حال الفقراء ومعاناتهم، لذا تُصنّف بأنها قصيدة اجتماعية، ويُذكَر في سبب نظمها أنّ الرصافي كان في مجلس مع صديق له يتجاذبان أطراف الأحداث، وفي أثناء ذلك مرّت من أمامهما امرأة محجبة تبدو عليها أمارات الفقر والحاجة، وكان في يدها صحن أتت به إلى صديق الرصافي طالبةً منه بضعة فلسات ثمنًا له، لكنّه تحدث معها همسًا فانصرفت، الأمر الذي أثار فضول شاعرنا فاستفسر من صديقه عن هذه المرأة، فأخبرها أنها أرملة لديها طفلان يتيمان تُعيلهما، وتريد أن تُرهن صحنها وتحصل على النقود لإحضار طعام لهما، فما كان من معروف الرصافي إلى أن لحق بها وأعطاها ما يملك في جيبه دون مقابل، وغادرها وهو يعتصر ألمًا يفكّر بحالها، ولما عاد إلى بيته جافاه النوم، ونظم هذه القصيدة والدموع تنهمر بعينيه.[١]


نص قصيدة الأرملة المرضعة

يقول معروف الرصافي في هذه القصيدة الأبيات الآتية:[٢]


لقيتها ليتني ما كنت ألقاها! تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها أَثوابُها رثَّةٌ والرِّجْلُ حافيةٌ والدمع تذْرفه في الخدِّ عيناها بكت من الفقر فاحمرَّت مدامعها واصفرَّ كالوَرْس من جوعٍ مُحياها مات الذي كان يحميها ويسعدها فالدهر من بعده بالفقر أشقاها الموت أفجعها والفقر أوجعها والهمُّ أنحلها والغمُّ أضناها فمنظر الحزن مشهود بمنظرها والبؤس مرآهُ مقرونٌ بمرآها كرُّ الجديدين قد أبلى عباءَتها فانشقَّ أسفلها وانشق أعلاها ومزَّق الدهرُ -ويلُ الدهرِ- مِئزرها حتى بدا من شقوق الثوبِ جَنباها تمشي بأطمارها والبرد يَلسعها كأنه عقربٌ شالت زُباناها حتَّى غدا جسمُها بالبردِ مرتجفًا كالغُصن في الريح واصطكَّت ثناياها تمشي وتحمل باليُسْرى وليدَتها حَمْلًا على الصَّدْر مدعومًا بيُمناها قد قمَّطتها بأهدام ممزَّقةٍ في العين منشرها سَمج ومَطواها ما أنسَ لا أنسَ أني كنتُ أسمعها تشكو إلى ربها أوصابَ دنياها تقول: يا ربُّ لا تترك بِلا لبنٍ هذي الرضيعة وارحمني وإياها ما تصنع الأم في تربيب طفلتها إن مسَّها الضرُّ حتى جفَّ ثدياها يا ربُّ ما حيلتي فيها وقد ذبلت كزهرة الروض فَقْدُ الغيث أظماها ما بالها وهْي طول الليل باكيةٌ والأمُّ ساهرة تبكي لمبكاها يكاد ينقدُّ قلبي حين أنظرها تبكي وتفتح لي من جوعها فاها ويلُمِّها طفلةً باتت مروَّعة وبتُّ من حولها في الليل أرعاها! تبكي لتشكوَ من داءٍ ألمَّ بها ولست أفهم منها كُنهَ شكواها قد فاتها النطق كالعجماء أرحمها ولست أعلم أي السقم آذاها وَيح ابنتي إنَّ ريبَ الدهر روَّعها بالفقر واليتم، آهًا منهما آها! كانت مصيبتها بالفقر واحدةً وموت والدها باليُتم ثنَّاها هذا الذي في طريقي كنت أسمعه منها فأثَّر في نفسي وأشجاها حتى دنوت إليه وهْي ماشيةٌ وأدمعي أوسعت في الخدِّ مجراها وقلت: يا أُختُ مهلًا إنني رجلٌ أشارك الناس طُرًّا في بلاياها سمعت يا أُخت شكوى تهمسين بها في قالةٍ أوجعت قلبي بفحواها هل تسمح الأخت لي أني أشاطرها ما في يدي الآن أسترضي به الله ثم اجتذبت لها من جيب ملحفتي دراهمًا كنت أستبقي بقاياها وقلت: يا أُخت أرجو منك تكْرمتي بأخذها دونما مَنٍّ تغشَّاها فأرسلتْ نظرة رعشاء راجفة ترمي السهام وقلبي من رماياها وأخرجَت زفَراتٍ من جوانحها كالنار تصعد من أعماق أحشاها وأجهشت ثم قالت وهي باكية: واهًا لمثلك من ذي رقَّة واها! لو عَمَّ في الناس حِسٌّ مثل حسِّك لي ما تاه في فَلَوات الفقر مَن تاها أو كان في الناس إنصافٌ ومرحمة لم تشكُ أرملة ضَنكًا بدنياها هذي حكاية حالٍ جئت أذكرها وليس يخفى على الأحرار مَغزاها أَولى الأنام بعطف الناس أرملةٌ وأشرف الناس مَن في المال واساها


مؤلف قصيدة الأرملة المرضعة

تعدّ هذه القصيدة إحدى القصائد التي نظمها معروف الرصافي، وهو شاعر عراقي من مواليد بغداد عام 1875م، عاش حياة فقر وعوز في صغره، وقد تلقى التعليم التقليدي كسائر أبناء جيله، وكن محبًا للغة العربية وعلومها وللتراث العربي، فظهر ذلك في شعره فيما بعد، وعقب إنهائه تعليمه انطلق في ميدان الحياة والعمل والشعر، وقد اشتهر معروف الرصافي بقوة شخصيته وجرأته؛ إذ لم يخشَ أن يعبّر عن آرائه التي تخدم مصلحة مجتمعه وقومه.[٣]



وللاطلاع على المزيد من القصائد الجميلة: قصيدة دمشق، قصيدة يا سيدي أسعف فمي.

المراجع

  1. إيمان جربوعة، آليات التماسك النصي في قصيدة الأرملة المرضعة، صفحة 3. بتصرّف.
  2. معروف الرصافي، ديوان معروف الرصافي، صفحة 304. بتصرّف.
  3. إيمان بقاعي، الرصافي&hl=en&sa=X&ved=2ahUKEwjU8qmjqJ3qAhVP2aQKHY5tCJ0Q6AEwBXoECAMQAg#v=onepage&q=معروف الرصافي&f=false معروف الرصافي نار أم كلم، صفحة 24. بتصرّف.