يعرف أبو القاسم الشابي بأنه شاعر تونسي عُدّ واحدًا من أبرز الشعراء في الشعر العربي، فقد امتازت أشعاره بعمق معانيها وجودة ألفاظها ووضوحها في الآن ذاته، فنال مكانة متميزة في الأدب العربي، وفي هذا المقال قدمنا لكم مجموعة مُختارة من قصائد أبي القاسم الشابي.
قصيدة الجبار
من أبيات هذه القصيدة التي نظمها أبو القاسم الشابي:[١]
سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِماً غَرِداً وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ أُصْغي لمُوسيقى الحَياةِ وَوَحْيِها وأذيبُ روحَ الكَوْنِ في إنْشَائي وأُصيخُ للصَّوتِ الإِلهيِّ الَّذي يُحْيي بقلبي مَيِّتَ الأَصْداءِ وأقولُ للقَدَرِ الَّذي لا ينثني عَنْ حَرْبِ آمالي بكلِّ بَلاءِ لا يُطْفِئُ اللَّهبَ المؤجَّجَ في دمي موجُ الأسى وعواصفُ الأَزراءِ فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ فإنَّهُ سيكون مثلَ الصَّخرة الصَّمَّاءِ لا يعرفُ الشَّكوى الذليلَة والبكا وضراعَة الأَطفالِ والضّعفاءِ ويعيشُ جبَّاراً يحدِّق دائماً بالفجر بالفجرِ الجميلِ النَّائي املأْ طريقي بالمخاوفِ والدُّجى وزوابعِ الأَشواكِ والحصباءِ وانْشر عليه الرُّعب وانثر فوقه رُجُمَ الرَّدى وصواعقَ البأساءِ سَأَظلُّ أمشي رغمَ ذلك عازفاً قيثارتي مترنِّماً بغنائي أَمشي بروحٍ حالمٍ متَوَهِّجٍ في ظُلمةِ الآلامِ والأَدواءِ النُّور في قلبي وبينَ جوانحي فَعَلامَ أخشى السَّيرَ في الظلماءِ إنِّي أنا النَّايُ الَّذي لا تنتهي أنغامُهُ ما دام في الأَحياءِ وأنا الخِضَمُّ الرحْبُ ليس تزيدُهُ إلاَّ حياةً سَطْوةُ الأَنواءِ أمَّا إِذا خمدت حياتي وانقضى عُمُري وأخرسَتِ المنيَّةُ نائي وخبا لهيبُ الكون في قلبي الَّذي قد عاش مِثْلَ الشُّعْلَةِ الحمراءِ فأنا السَّعيد بأنَّني مُتحوِّلٌ عن عالمِ الآثامِ والبغضاءِ
قصيدة قبضة من ضباب
يقول أبو القاسم الشابي فيها:[٢]
مَهْمَا تأمَّلْتُ الحياةَ وَجُبْتُ مَجْهَلَها الرَّهِيبْ ونَظَرْتُ حولي لَمْ أَجِدْ إلاَّ شُكُوكَ المُسْتَريبْ حتَّى دَهِشْتُ وما أُفِدْتُ بدهشتي رأياً مُصيبْ لكنَّني أَجْهَدْتُ نَفْسي وهيَ باديَةُ اللُّغوبْ وَدَفَعْتُها وهيَ الهزيلَةُ في مُغالَبَةِ الكُروبْ في مَهْمَهٍ مَتَقَلِّبٍ تُخْشَى غَوَائِلُهُ جَديبْ فإذا أصابَتْ من مَنَاهِلِهِ شراباً تَسْتَطيبْ أَروتْ جوانِحَهَا وذلك حَسْبُها كيما تَؤُوبْ ومَنِ ارتوى في هذه الدُّنيا تَسَنَّمَهَا خَطِيبْ أَوْ لا فقد رَكِبَتْ من الأَيَّامِ مَرْكَبَها العَصِيبْ وَقَضَتْ كما شاءَ الخُلودُ وفي جوانِحِهَا اللَّهيبْ
قصيدة إلى قلبي التائه
يقول فيها أبو القاسم الشابي:[٣]
ما لآفاقِكَ يا قلبيَ سوداً حالكاتْ ولأوْرادِكَ بَيْنََ الشَّوْكِ صُفراً ذاوياتْ ولأطْياركَ لا تلغو فأينَ النَّغَماتْ ما لمِزْمارِكَ لا يشدو بغير الشَهَقاتْ ولأوتارِكَ لا تَخْفُقُ إلاَّ شاكِياتْ ولأنغامِكَ لا تَنْطُقُ إلاَّ باكِياتْ ولقد كانتْ صَباحَ الأمْس بَيْنَ النَّسَماتْ كعذارى الغابِ لا تعرِفُ غيرَ البَسَماتْ هو ذا يا قلبيَ البَحْرُ وأمواجُ الحياةْ هو ذا القارِبُ مشدوداً إلى تِلْكَ الصَّفاةْ هو ذا الشاطئُ لكنْ أينَ رُبَّانُكَ ماتْ أين أحلامُك يا قلبي لقد فاتَ الفَواتْ تِلْكََ أطيارٌ أنيقاتٌ طِرابٌ فرِحاتْ غرَّدتْ ثمَّ توارتْ في غياباتِ الحَياةْ أَنْتَ يا قلبيَ قلبٌ أنضجَتْهُ الزَّفَراتْ أَنْتَ يا قلبيَ عُشُّ نَفَرَتْ عنهُ القَطَاةْ فأطارَتْهُ إلى النَّهْرِ الرِّياحُ العاتِياتْ فَهو في التيَّار أوراقٌ وأعوادٌ عُراةْ أَنْتَ حقلٌ مُجْدبٌ قَدْ هَزَأتْ منه الرُّعاةْ أَنْتَ ليلٌ مُعْتِمٌ تَنْدُبُ فيه الباكياتْ أَنْتَ كهفٌ مظلِمٌ تأوي إليه البائِساتْ أَنْتَ صرْحٌ شادَهُ الحُبُّ على نهرِ الحياةْ لِبَناتِ الشِّعْرِ لكنْ قوَّضَتْهُ الحادِثاتْ أَنْتَ قبرٌ فيه من أيامِيَ الأولى رُفاتْ أَنْتَ عودٌ مزّقت أوتارَه كفُّ الحياةْ فهو في وحشته الخَرساءِ بَيْنَ الكائِناتْ صامتٌ كالقبرِ إلاَّ من أنينِ الذِّكريات أَنْتَ لحنٌ ساحرٌ يَخْبُطُ في التِّيهِ المَواتْ أَنْتَ أنشودةُ فَجْرٍ رتَّلَتها الظُّلُماتْ أَيُّها السَّاري مع الظُّلْمةِ في غير أناةْ مُطرِقاً يَخْبُطُ في الصحراءِ مَكْبوحَ الشَّكاةْ تُهْتَ في الدُّنيا وما أُبْتَ بغيرِ الحَسَراتْ صلِّ يا قلبي إلى الله فإنَّ الموتَ آتْ صَلِّ فالنّازعُ لا تبقى له غيرُ الصَّلاةْ
قصيدة صلوات في هيكل الحب
وهي قصيدة طويلة، فيما يأتي بعض من أبياتها:[٤]
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد كالسَّماء الضَّحُوكِ كاللَّيلَةِ القمراءِ كالوردِ كابتسامِ الوليدِ يا لها مِنْ وَداعةٍ وجمالٍ وشَبابٍ مُنعَّمٍ أُمْلُودِ يا لها من طهارةٍ تبعثُ التَّقدي سَ في مهجَةِ الشَّقيِّ العنيدِ يا لها رقَّةً تَكادُ يَرفُّ الوَرْ دُ منها في الصَّخْرَةِ الجُلْمودِ أَيُّ شيءٍ تُراكِ هلْ أَنْتِ فينيسُ تَهادتْ بَيْنَ الوَرَى مِنْ جديدِ لتُعيدَ الشَّبابَ والفرحَ المعس ولَ للعالمِ التَّعيسِ العميدِ أَم ملاكُ الفردوس جاءَ إلى الأَر ضِ ليُحيي روحَ السَّلامِ العهيدِ أَنتِ مَا أَنتِ أَنْتِ رسمٌ جميلٌ عبقريٌّ من فنِّ هذا الوُجُودِ فيكِ مَا فيهِ من غموضٍ وعُمْقٍ وجَمَالٍ مقَدَّسٍ معبودِ أنتِ مَا أنتِ أَنتِ فجرٌ من السّحرِ تجلَّى لقلبيَ المعمودِ فأراه الحَيَاةَ في مُونِقِ الحُسْنِ وجلّى له خفايا الخلودِ أَنتِ روحُ الرَّبيعِ تختالُ ف ي الدُّنيا فتهتزُّ رائعاتُ الورودِ وتهبُّ الحَيَاة سَكرى من العِط رِ ويدْوي الوُجُودُ بالتَّغريدِ كلَّما أَبْصَرَتْكِ عينايَ تمشينَ بخطوٍ موقَّعٍ كالنَّشيدِ خَفَقَ القلبَ للحياة ورفَّ الزَّه رُ في حقلِ عمريَ المجرودِ وانتشتْ روحيَ الكئيبَةُ بالحبِّ وغنَّتْ كالبلبلِ الغِرِّيدِ أَنتِ تُحيينَ في فؤاديَ مَا قدْ ماتَ في أَمسيَ السَّعيدِ الفقيدِ وَتُشِيدينَ في خرائبِ روحي مَا تلاشَى في عهديَ المجدودِ مِنْ طموحٍ إلى الجمالِ إلى الفنِّ إلى ذلك الفضاءِ البعيدِ وتَبُثِّينَ رقَّةَ الشوقِ والأَحلامِ والشَّدوِ والهوى في نشيدي
قصيدة قلت للشعر
يقول أبو القاسم الشابي في قصيدته هذه المعنونة بـ "قلت للشعر":[٥]
أنتَ يا شِعْرُ فلذةٌ مِنْ فؤادي تَتَغَنَّى وقِطْعةٌ مِنْ وُجُودي فيكَ مَا في جوانحي مِنْ حنينٍ أبديٍّ إلى صميمِ الوُجُودِ فيكَ مَا في خواطري مِنْ بكاءٍ فيكَ مَا في عواطفي مِنْ نشيدِ فيكَ مَا في مَشَاعري مِنْ وُجُومٍ لا يُغَنِّي ومِنْ سُرورٍ عَهيدِ فيكَ مَا في عَوَالمي مِنْ ظلامٍ سَرْمديٍّ ومِنْ صباحٍ وَليدِ فيكَ مَا في عَوَالمي مِنْ ضبابٍ وسرابٍ ويقظةٍ وهُجُودِ فيكَ مَا في طفولتي مِنْ سلامٍ وابتسامٍ وغبطةٍ وسُعودِ فيكَ مَا في شبيبتي مِنْ حنينٍ وشجونٍ وبَهْجةٍ وجُمودِ فيكَ إن عانقَ الرَّبيعُ فؤادي تتثنَّى سَنَابِلي وَوُرُودي ويغنِّي الصَّباحُ أُنشودَةَ الحبِّ على مَسْمَعِ الشَّبابِ السَّعيدِ ثُمَّ أَجْني في صيفِ أَحلاميَ السَّاحِرِ مَا لَذَّ من ثمارِ الخُلودِ فيكَ يبدو خريفُ نَفْسي مَلُولاً شاحِبَ اللَّوْنِ عاريَ الأُمْلودِ حَلَّلته الحَيَاةُ بالحَزَنِ الدَّا مي وغَشَّتْهُ بالغيومِ السُّودِ فيكَ يمشي شتاءُ أَيَّاميَ البا كي وتُرغي صَوَاعقي ورُعُودي وتَجِفُّ الزُّهورُ في قلبيَ الدَّا جي وتهوي إلى قرارٍ بعيدِ أَنْتَ يا شِعْرُ قصَّةٌ عن حياتي أَنْتَ يا شِعْرُ صورةٌ مِنْ وُجودي أَنْتَ يا شِعْرُ إنْ فَرِحْتُ أغاريدي وإنْ غنَّتِ الكآبَةُ عُودي
قصيدة قضيت أدوار الحياة
وفيها يقول أبو القاسم الشابي:[٦]
قَضَيْتُ أَدوارَ الحَيَاةِ مُفَكِّراً في الكَائِناتِ مُعَذَّباً مَهْمُوما فَوَجَدْتُ أَعراسَ الوُجُود مآتِماً ووجدْتُ فِرْدَوْسَ الزَّمانِ جَحِيما تدوي مَخَارِمُهُ بضَجَّةِ صَرْصَرٍ مشبوبةٍ تَذَرُ الجِبالَ هَشِيما وحَضَرْتُ مائدَةَ الحَيَاةِ فلمْ أَجِدْ إلاَّ شراباً آجِناً مَسْمُوما ونَفَضْتُ أَعماقَ الفَضَاءِ فلمْ أَجِدْ إلاَّ سُكوناً مُتعَباً مَحْمُوما تتبخَّرُ الأَعمارُ في جَنَباتِهِ وتَمُوتُ أَشواقُ النُّفوسِ وُجُوما ولَمَسْتُ أَوتارَ الدُّهُورِ فلمْ تُفِضْ إلاَّ أَنيناً دامياً مَكْلُوما يَتْلو أَقاصيصَ التَّعاسَةِ والأَسى ويُصِيرُ أَفراحَ الحَيَاةِ هُمُوما شُرِّدْتُ عن وَطَني الجميل أَنا الشَّقِ يُّ فَعِشْتُ مَشْطورَ الفؤادِ يتيما في غُربةٍ رُوحيَّةٍ مَلْعُونةٍ أَشواقُها تَقْضي عِطاشاً هِيما يا غُربَةَ الرُّوحِ المُفَكِّر إنَّهُ في النَّاسِ يحيا سَائماً مَسْؤُوما شُرِّدْتُ للدُّنيا وكُلٌّ تائهٌ فيها يُرَوِّعُ راحلاً ومقيما يدعو الحَيَاةَ فلا يُجيبُ سِوَى الرَّدى ليدُسُّهُ تَحْتَ التُّرابِ رَميما وتِظِلُّ سَائِرةً كأنَّ فقيدها مَا كانَ يوماً صاحباً وحميما يا أَيُّها السَّاري لقد طالَ السُّرى حَتَّام تَرْقُبُ في الظَّلامِ نُجُوما أَتَخَالُ في الوادي البعيدِ المرتَجَى هيهاتَ لنْ تَلْقَى هناكَ مَرُوما سرْ مَا اسْتَطَعْتَ فَسَوْفَ تُلفِي مثلما خلَّفتَ مَمشُوقَ الغُصونِ حَطيما
المراجع
- ↑ أحمد حسن بسج، ديوان أبي القاسم الشابي، صفحة 11. بتصرّف.
- ↑ أحمد حسن بسج، ديوان أبي القاسم الشابي، صفحة 28. بتصرّف.
- ↑ "ما لآفاقك يا قلبي سودا حالكات"، الديوان. بتصرّف.
- ↑ "قصيدة عذبة أنت كالطفولة كالأحلام"، ديوان الأدب. بتصرّف.
- ↑ "أنت يا شعر فلذة من فؤادي"، الديوان. بتصرّف.
- ↑ "قَضَيْتُ أَدوارَ الحَيَاةِ مُفَكِّراً"، بوابة الشعراء. بتصرّف.