اشتهر في العصر العباسي الشاعر أبو تمام واسمه حبيب بن أوس الطائي في قرض الشعر ورصانة القول وعُمق الدلالة، إلى جانب المزاوجة بين طريقته التجديدية وعمود الشعر، وقد نظم في العديد من الأغراض الشعرية، إلا أنّ شعر المدح نال الحظّ الأوفر عنده، فعُدّ أبو تمام واحدًا من الشعراء العرب الذين أبدعوا في هذا الغرض، وفي السطور التالية من هذا المقال عرضنا لكم مجموعة من القصائد التي نظمها أبو تمام في المدح.
قصيدة يا موضع الشدنية الوجناء
قال أبو تمام هذه القصيدة في مدح خالد بن يزيد الشيباني، وهذه أبياتها:[١]
يا مَوضِعَ الشَدَنِيَّةِ الوَجناءِ وَمُصارِعَ الإِدلاجِ وَالإِسراءِ أَقري السَلامَ مُعَرَّفاً وَمُحَصِّباً مِن خالِدِ المَعروفِ وَالهَيجاءِ سَيلٌ طَما لَو لَم يَذُدهُ ذائِدٌ لَتَبَطَّحَت أولاهُ بِالبَطحاءِ وَغَدَت بُطونُ مِنى مُنىً مِن سَيبِهِ وَغَدَت حَرىً مِنهُ ظُهورُ حِراءِ وَتَعَرَّفَت عَرَفاتُ زاخِرَهُ وَلَم يُخصَص كَداءٌ مِنهُ بِالإِكداءِ وَلَطابَ مُرتَبَعٌ بِطيبَةَ وَاِكتَسَت بُردَينِ بُردَ ثَرىً وَبُردَ ثَراءِ لا يُحرَمِ الحَرمَانِ خَيراً إِنَّهُم حُرِموا بِهِ نَوءاً مِنَ الأَنواءِ يا سائِلي عَن خالِدٍ وَفَعالِهِ رِد فَاِغتَرِف عِلماً بِغَيرِ رَشاءِ اُنظُر وَإِيّاكَ الهَوى لا تُمكِنَن سُلطانَهُ مِن مُقلَةٍ شَوساءِ تَعلَم كَمِ اِفتَرَعَت صُدورُ رِماحِهِ وَسُيوفِهِ مِن بَلدَةٍ عَذراءِ وَدَعا فَأَسمَعَ بِالأَسِنَّةِ وَاللُهى صُمَّ العِدى في صَخرَةٍ صَمّاءِ بِمَجامِعِ الثَغرَينِ ما يَنفَكُّ مِن جَيشٍ أَزَبَّ وَغارَةٍ شَعواءِ مِن كُلِّ فَرجٍ لِلعَدُوِّ كَأَنَّهُ فَرجٌ حِمىً إِلّا مِنَ الأَكفاءِ قَد كانَ خَطبٌ عاثِرٌ فَأَقالَهُ رَأيُ الخَليفَةِ كَوكَبُ الخُلَفاءِ فَخَرَجتَ مِنهُ كَالشِهابِ وَلَم تَزَل مُذ كُنتَ خَرّاجاً مِنَ الغَمّاءِ ما سَرَّني بِخِداجِها مِن حُجَّةٍ ما بَينَ أَندَلُسٍ إِلى صَنعاءِ أَجرٌ وَلَكِن قَد نَظَرتُ فَلَم أَجِد أَجراً يَفي بِشَماتَةِ الأَعداءِ لَو سِرتَ لَاِلتَقَتِ الضُلوعُ عَلى أَسىً كَلِفٍ قَليلِ السِلمِ لِلأَحشاءِ وَلَجَفَّ نُوّارُ الكَلامِ وَقَلَّما يُلفى بَقاءُ الغَرسِ بَعدَ الماءِ فَالجَوُّ جَوّي إِن أَقَمتَ بِغِبطَةٍ وَالأَرضُ أَرضي وَالسَماءُ سَمائي
قصيدة السيف أصدق أنباء من الكتب
هذه القصيدة في مدح المعتصم بالله، فيقول أبو تمام:[٢]
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ عَجائِباً زَعَموا الأَيّامَ مُجفِلَةً عَنهُنَّ في صَفَرِ الأَصفارِ أَو رَجَبِ وَخَوَّفوا الناسَ مِن دَهياءَ مُظلِمَةٍ إِذا بَدا الكَوكَبُ الغَربِيُّ ذو الذَنَبِ وَصَيَّروا الأَبرُجَ العُليا مُرَتَّبَةً ما كانَ مُنقَلِباً أَو غَيرَ مُنقَلِبِ يَقضونَ بِالأَمرِ عَنها وَهيَ غافِلَةٌ ما دارَ في فُلُكٍ مِنها وَفي قُطُبِ لَو بَيَّنَت قَطُّ أَمراً قَبلَ مَوقِعِهِ لَم تُخفِ ما حَلَّ بِالأَوثانِ وَالصُلُبِ فَتحُ الفُتوحِ تَعالى أَن يُحيطَ بِهِ نَظمٌ مِنَ الشِعرِ أَو نَثرٌ مِنَ الخُطَبِ فَتحٌ تَفَتَّحُ أَبوابُ السَماءِ لَهُ وَتَبرُزُ الأَرضُ في أَثوابِها القُشُبِ يا يَومَ وَقعَةِ عَمّورِيَّةَ اِنصَرَفَت مِنكَ المُنى حُفَّلاً مَعسولَةَ الحَلَبِ أَبقَيتَ جَدَّ بَني الإِسلامِ في صَعَدٍ وَالمُشرِكينَ وَدارَ الشِركِ في صَبَبِ أُمٌّ لَهُم لَو رَجَوا أَن تُفتَدى جَعَلوا فِداءَها كُلَّ أُمٍّ مِنهُمُ وَأَبِ وَبَرزَةِ الوَجهِ قَد أَعيَت رِياضَتُها كِسرى وَصَدَّت صُدوداً عَن أَبي كَرِبِ بِكرٌ فَما اِفتَرَعتَها كَفُّ حادِثَةٍ وَلا تَرَقَّت إِلَيها هِمَّةُ النُوَبِ مِن عَهدِ إِسكَندَرٍ أَو قَبلَ ذَلِكَ قَد شابَت نَواصي اللَيالي وَهيَ لَم تَشِبِ حَتّى إِذا مَخَّضَ اللَهُ السِنينَ لَها مَخضَ البَخيلَةِ كانَت زُبدَةَ الحِقَبِ أَتَتهُمُ الكُربَةُ السَوداءُ سادِرَةً مِنها وَكانَ اِسمُها فَرّاجَةَ الكُرَبِ جَرى لَها الفَألُ بَرحاً يَومَ أَنقَرَةٍ إِذ غودِرَت وَحشَةَ الساحاتِ وَالرُحَبِ لَمّا رَأَت أُختَها بِالأَمسِ قَد خَرِبَت كانَ الخَرابُ لَها أَعدى مِنَ الجَرَبِ كَم بَينَ حيطانِها مِن فارِسٍ بَطَلٍ قاني الذَوائِبِ مِن آني دَمٍ سَرَبِ بِسُنَّةِ السَيفِ وَالخَطِيِّ مِن دَمِهِ لا سُنَّةِ الدينِ وَالإِسلامِ مُختَضِبِ لَقَد تَرَكتَ أَميرَ المُؤمِنينَ بِها لِلنارِ يَوماً ذَليلَ الصَخرِ وَالخَشَبِ غادَرتَ فيها بَهيمَ اللَيلِ وَهوَ ضُحىً يَشُلُّهُ وَسطَها صُبحٌ مِنَ اللَهَبِ حَتّى كَأَنَّ جَلابيبَ الدُجى رَغِبَت عَن لَونِها وَكَأَنَّ الشَمسَ لَم تَغِبِ ضَوءٌ مِنَ النارِ وَالظَلماءِ عاكِفَةٌ وَظُلمَةٌ مِن دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ
قصيدة قل للأمير الذي
نُظمت في مدح إسحق بن إبراهيم بن مصعب، وفيها يقول أبو تمام:[٣]
قُل لِلأَميرِ الَّذي قَد نالَ ما طَلَبا وَرَدَّ مِن سالِفِ المَعروفِ ما ذَهَبا مَن نالَ مِن سُؤدُدٍ زاكٍ وَمِن حَسَبٍ ما حَسبُ واصِفِهِ مِن وَصفِهِ حَسَبا إِذا المَكارِمُ عُقَّت وَاِستُخِفَّ بِها أَضحى النَدى وَالسَدى أُمّاً لَهُ وَأَبا تَرضى السُيوفُ بِهِ في الرَوعِ مُنتَصِراً وَيَغضَبُ الدينَ وَالدُنيا إِذا غَضِبا في مُصعَبِيّينَ ما لاقَوا مُريدَ رَدىً لِلمُلكِ إِلّا أَصاروا خَدَّهُ تَرِبا كَأَنَّهُم وَقَلَنسى البيضِ فَوقَهُمُ يَومَ الهِياجِ بُدورٌ قُلنِسَت شُهُبا فِداءُ نَعلِكَ مُعطىً حَظَّ مُكرُمَةٍ أَصغى إِلى المَطلِ حَتّى باعَ ما وَهَبا إِنّي وَإِن كانَ قَومٌ ما لَهُم سَبَبٌ إِلّا قَضاءٌ كَفاهُم دونِيَ السَبَبا وَكُنتُ أَعلَمُ عِلماً لا كِفاءَ لَهُ أَن لَيسَ كُلُّ قِطارٍ يُنبِتُ العُشُبا وَرُبَّما عَدَلَت كَفُّ الكَريمِ عَنِ ال قَومِ الحُضورِ وَنالَت مَعشَراً غَيَبا لَمُضمِرٌ غُلَّةً تَخبو فَيُضرِمُها أَنّي سَبَقتُ وَيُعطى غَيرِيَ القَصَبا وَنادِبٌ رِفعَةً قَد كُنتُ آمُلُها لَدَيكَ لا فِضَّةً أَبكي وَلا ذَهَبا أَدعوكَ دَعوَةَ مَظلومٍ وَسيلَتُهُ إِن لَم تَكُن بي رَحيماً فَاِرحَمِ الأَدَبا اِحفَظ وَسائِلَ شِعرٍ فيكَ ما ذَهَبَت خَواطِفُ البَرقِ إِلّا دونَ ما ذَهَبا يَغدونَ مُغتَرِباتٍ في البِلادِ فَما يَزَلنَ يُؤنِسنَ في الآفاقِ مُغتَرَبا وَلا تُضِعها فَما في الأَرضِ أَحسَنُ مِن نَظمِ القَوافي إِذا ما صادَفَت حَسَبا
قصيدة غدت تستجير الدمع
نُظمت قصيدة غدت تستجير الدمع لأبي تمام في مدح محمد بن يوسف الطائي، ومن أبياتها الآتي:[٤]
سَرَت تَستَجيرُ الدَمعَ خَوفَ نَوى غَدِ وَعادَ قَتاداً عِندَها كُلُّ مَرقَدِ وَأَنقَذَها مِن غَمرَةِ المَوتِ أَنَّهُ صُدودُ فِراقٍ لا صُدودُ تَعَمُّدِ فَأَجرى لَها الإِشفاقُ دَمعاً مُوَرَّداً مِنَ الدَمِ يَجري فَوقَ خَدٍّ مُوَرَّدِ هِيَ البَدرُ يُغنيها تَوَدُّدُ وَجهِها إِلى كُلِّ مَن لاقَت وَإِن لَم تَوَدَّدِ وَلَكِنَّني لَم أَحوِ وَفراً مُجَمَّعاً فَفُزتُ بِهِ إِلّا بِشَملٍ مُبَدَّدِ وَلَم تُعطِني الأَيّامُ نَوماً مُسَكَّناً أَلَذُّ بِهِ إِلّا بِنَومٍ مُشَرَّدِ وَطولُ مُقامِ المَرءِ في الحَيِّ مُخلِقٌ لِديباجَتَيهِ فَاِغتَرِب تَتَجَدَّدِ فَإِنّي رَأَيتُ الشَمسَ زيدَت مَحَبَّةً إِلى الناسِ أَن لَيسَت عَلَيهِم بِسَرمَدِ حَلَفتُ بِرَبِّ البيضِ تَدمى مُتونُها وَرَبِّ القَنا المُنآدِ وَالمُتَقَصَّدِ لَقَد كَفَّ سَيفُ الصامِتِّيِ مُحَمَّدٍ تَباريحَ ثَأرِ الصامِتِيِّ مُحَمَّدِ رَمى اللَهُ مِنهُ بابَكاً وَوُلاتَهُ بِقاصِمَةِ الأَصلابِ في كُلِّ مَشهَدِ بِأَسمَحَ مِن غُرِّ الغَمامِ سَماحَةً وَأَشجَعَ مِن صَرفِ الزَمانِ وَأَنجَدِ إِذا ما دَعَوناهُ بِأَجلَحَ أَيمَنٍ دَعاهُ وَلَم يَظلِم بِأَصلَعَ أَنكَدِ فَتىً يَومَ بَذِّ الخُرَّمِيَّةِ لَم يَكُن بِهَيّابَةٍ نِكسٍ وَلا بِمُعَرِّدِ قِفا سَندَبايا وَالرِماحُ مُشيحَةٌ تُهَدّى إِلى الروحِ الخَفِيِّ فَتَهتَدي عَدا اللَيلُ فيها عَن مُعاوِيَةَ الرَدى وَما شَكَّ رَيبُ الدَهرِ في أَنَّهُ رَدي
قصيدة أقول لمرتاد الندى
نظمها أبو تمام في مدح مالك بن طوق، وأبياتها كالآتي:[٥]
أَقولُ لِمُرتادِ النَدى عِندَ مالِكٍ تَعَوَّذ بِجَدوى مالِكٍ وَصِلاتِهِ فَتىً جَعَلَ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ سَريعاً إِلى المُمتاحِ قَبلَ عِداتِهِ وَلَو قَصَّرَت أَموالُهُ عَن سَماحِهِ لَقاسَمَ مَن يَرجوهُ شَطرَ حَياتِهِ وَإِن لَم يَجِد في قِسمَةِ العُمرِ حيلَةً وَجازَ لَهُ الإِعطاءُ مِن حَسَناتِهِ لَجادَ بِها مِن غَيرِ كُفرٍ بِرَبِّهِ وَآساهُمُ مِن صَومِهِ وَصَلاتِهِ
المراجع
- ↑ الخطيب التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، صفحة 14. بتصرّف.
- ↑ الخطيب التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، صفحة 32. بتصرّف.
- ↑ "قصيدة قل للأمير الذي"، بوابة الشعراء. بتصرّف.
- ↑ "قصيدة سرت تستجير الدمع"، الديوان. بتصرّف.
- ↑ الخطيب التبريزي، شرح ديوان أبي تمام، صفحة 166. بتصرّف.