مظفر النواب

مظفر النواب شاعر عربي، مولود في بغداد عام 1934، ذو شهرةٍ واسعة، عُرف بأنه شاعر مشرد يشهر أصابعه بالاتهام السياسي لمراحل مختلفة من التاريخ الحالي، اسمه مظفر عبد المجيد النواب، والنواب هو تسميته المهنية؛ أي من النيابة، فقد كانت عائلته قديمًا تحكم ولاية بالهند، تعرض لسلسة من الاعتقالات السياسية، ثم هرب من السجن، وقد كرس حياته لتجربته الشعرية، وتقدر عدد الكتب التي ألفها مظفر النواب بأربعة كتبٍ، من ضمنها ديوانه الشعري الذي يضم الكثير من القصائد السياسية والوطنية.[١]


قصيدة ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة

يقول مظفر النواب:[٢]

مَرَّةً أُخرى على شُبَّاكِنا تَبكي

ولا شَيءَ سَوى الريح

وحَبَّاتٍ مِنَ الثَلجِ على القَلبِ

وحُزنٍ مِثلَ أسواقِ العِراقْ

مِرَّةً أُخرى يَنامُ القَلبُ

بالقُربِ مِنَ النَهْرِ زُقاقْ

مَرَّةً أُخرى أُوافيهِم على بُعْدٍ

وما عُدنا رِفاقْ..

لم يَعُدْ يذكُرني مُنذُ اختلفنا

أحدٌ غيرُ الطريق

صارَ يَكفي

فَرَحُ الأجراسِِ يأتي مِن بَعيدٍ

وصَهيلُ الفتياتِ الشُقر

يَستنهضُ عَزمَ الزمنِ المُتْعَبِ

والريحُ مِنَ الرُقعةِ تغتابُ شُموعي

رُقعةٌ الشُبَّاكِ كَم تُشبهُ جُوعي

وأثينا كُلُّها في الشارعِ الشتوي

تُرخي شَعرَها للنَمَشِ الفِضِّيِ

والأشرطةِ الزرقاءِ واللذَّةِ

هل أخرجُ للشارعِ؟

مَنْ يَعرِفُني؟

مَنْ تَشتريني بِقليلٍ مِنْ زوايا عَينِها؟

تَفهَم تَنويني وضَمِّي ودُموعي..

أي إِلهي: إِنَّ لي أمنيةً

أَنْ يَسقُطَ القَمعُ بِداءِ القَلب

والمَنفى يعودونَ إلى أوطانِهم

ثُمَّ رُجوعي..

كُلُّ شَيءٍ طَعمُهُ طَعمُ الفِراقْ

حينما ترتفعُ القاماتُ لَحناً أُمَمِياً

ثُمَّ لا يأتي العِراقْ

كانَ قَلبي يَضْطَرب

كنتُ أستفهمُ عَمَّن وَجَّهَ الدعوةَ

عَمَّن وَضَعَ اللحنَ

ومَن قادَ ومَن أَنشَدَ

أَستفهِمُ حتَّى عَن مَذاقِ الحاضِرينْ

يا إِلهي: إِنَّ لي أُمنيةً ثانيةً

أن يًرجعَ اللحنُ عِراقياً وإِنْ كان حَزينْ

لم يَعُدْ يَذكُرني في الحفلَ غيرُ الاحتراق

كان حفلاً أممياً إِنَّما قد دُعِيَ النفطُ

ولمْ يُدْعَ العَراقْ

يا إِلهي: رغبةٌ أُخرى إِذا وافقتَ

أن تغفِرَ لي بُعديَ أُمِّي

والشُّجيراتِ التي لم أسقِها مُنذُ سِنينْ

وانشغالي بينما تَبحَثُ عَنِّي

وأنا أسلكُ في الدربِ

وإنْ كنتُ بجيشِ الضائِعينْ

وأثينا....آآآآآه مِنْ هذي الأثينا

لم تُزَرِّر أيَّ شَيءٍ

عَرضَت فِتنَتَها

والناسُ ما زالوا على أرصفةِ الأمسِ

سُكارى مَيِّتينْ

إِيهِ يا بَحْرِّيَةَ الأثوابِ

أثوابُكِ تُعطي ضِعفَ ما عُريَكِ يُعطي

وأنا ضاعَفتُ عَينيَّ

وبعضُ النَّظرِ المُشتاقِ لمسٌ

ولقد يَهتفُ حتَّى الكُفرُ مَهزوماً أمامَ الحُسْنِ: سُبحانَكَ رَبَّ العالمينْ

قانعٌ مِنْ كُلِّ دُنيايَ بَحُبٍّ مِثلما يُفْطِرُ مَنْ صامَ

مَدى الدَّهرِ بتمراتِ كُنوزٍ مِنْ عِراقٍ وحنين.


الرحلات القصية

يقول المظفر:[٣]

لِكُلٍّ نديمٌ يُؤرِّقُ

والقلبُ مَلَّ نَديمَه

كأنيَ عِشقٌ تَذوق طَعمَ الهَزيمة

دخَلتُ وراءَ السِّياجِ

فآهٍ مِن الذُلِّ في نَفحة الياسمين

ذَكِيٌّ ويَعرفُ كلَّ الدروبِ القديمة

وآهٍ مِن العُمرِ بين الفنادقِ لا يَستريح

أرِحني قليلاً

فإني بِدَهري جَريح

لَكَم نَضَجَ العِنَبُ المُتأخِّرُ

وانفرَطَت بعضُ حبّاتِهِ

كُن يداً أيها الحزنُ

واقطِف

ولا تَكُ ريح

رَمَتني الرياحُ بَعيداً عنِ النهرِ

فاكتَشَفَت بَذرَتي نَهرَها

غَطَّتِ الدَّربَ

والفِتيَةَ المُنتَمينَ

إلى اللّعبِ

والخَطرِ البُرتقاليِّ في حَدَقاتِ الزُّقاقِ

وتَدخلُ غُرفةَ نومي

وهذي رُسومي... وهذا صِبايَ الحَزين

وتِلكَ مُراهَقَتي في شَبابيكِها...ولُهاثُ السَفرجلِ

والشّوقُ قَد كَبُرَ الشوقُ عِشرينَ عامًا

وصارَ اشتياق

وما مِن دُموعٍ أُداوي بِها

حَضَراتِ الهُمومِ الجَليلةِ

إلّا قَميصي وقلبي..وكلمةِ حُزنٍ

نَساها الرفاق

تَفَتَّحَ حُزنٌ كثيرٌ غَداةَ افتَرَقنا

ولستُ على أحدٍ نادماً

غَيرَ قَلبي

فقد عاشَ حُباً مُعاق

أُحَلِّقُ وحدي بطائرةٍ كلُّ ركابِها نَزَلوا

في مطارٍ غريب

وأغطَسُ في البَردِ

لا طاقِماً...لا مُضَيِّفَةً لا مطاراتِ حُبٍّ سأنزلُ فيها..

ولا بلداً عربياً

يكونُ تبرأ مِني الزمانُ الحَبيب؟

لَكَم كانَ يَكفي قليلٌ مِن الورقِ الناعِمِ البالي

أصنعُ طائرتي

وأهيمُ بِها في الطُفولةِ

والناسُ مثلُ الطُفولةِ

صَحوٌ يُغنّي بهِ عَندليب

وتلكَ النوايا الصغيرةُ جِداً

تَمُرُّ البساتينُ فيها

وتَبني قَناطِرَها

والكلابُ الصغيرةُ

تركضُ في ثَوبِها الليلكي

وراءَ نُحاسِ المَغيب

وبُستانُ نونٍ

على شَفتَيّ مُراهِقَةٍ

قَبَّلَتني لأنّيَ طِفلٌ

ولا أفهم الرحلاتِ القَصِيَّةَ

ما زِلتُ طِفلاً تَهَجَأتُ

أو يَتَهجأُ قَلبيَ طِيب

وأتقَنتُ أقرأُ

مِثلَ الكَفيفِ

بهذي الأصابِعِ

خِصراً وكَسراتِهِ

فإذا ضَمّني مثلَهُ

لم أعُد مُعرَباً

بل بِناءٌ رهيب

لقد خَتَّموني الحروفَ

إلى النونِ ثم اكتَفوا

فَبَقيتُ رَضيعاً

وعيني على الواوِ والياءِ

أيتُها الأحرُفُ العربيةُ

فالهاءُ حَرفٌ عَجيب

وأمُدُّ الخُيوطَ

وطائِرتي تَسمَعُ النَّبضَ

عَبرَ خُيوطي

وفي اللّازَوَردِ السماويِّ

في طَرَبٍ تَستجيب

وقد يَعلَقُ الخَيطُ بِمَدخَنَةٍ

لِرفيقٍ قَديمٍ

فَيجفَلُ مِن رِقَّةِ الخَيطِ

هذا زَمانٌ دَنيءٌ كَئيب

وأخجَلُ أسحَبُ

خَيطي الوَفِيَّ

أراهُ لقد فَحَصَ الخَيطَ

حَدَّ الهزيمة

كَفى تَنفُخينَ رَمادي

تَقَصَّدتُ أن أحرِقَ القلبَ

مُستَعجِلاً

أصِفاتُ الحِريقِ السَّريعِ

ذَميمة؟

لذاكَ احتَرَقتُ وأعطَيتُ ما يَعجَزُ النّورُ عَنهُ

فإني على النّورِ بَعضُ النَّميمَة

لَكَم كُنتُ

كالورقِ الناعمِ البالي حَدَّ الجَريمة

لقد خَربَشَ الحُبُّ أمسي

وقد خَرَجَت خَربشاتُ الهوى لِغَدي

والتَقَت عِندَ تلكَ المصاطِبِ

والسَروِ والحانَةِ المُستَديمة

هنالِكَ مصطَبةٌ في النُّواسِيّ

يَغمُرُها القِشُّ والليلُ

كُنتُ أحِبُّ عَليها وأنسى عَليها

وأربطُ طيّارَتي والسياسةَ والعِشقَ

واقتَلَعَتها الجُذورُ الأثيمة

أُعيدُ المصاطبُ قاطِبةً بِيَديَّ

إذا انتَصرَ النَّهرُ والناسُ

أدهَنُها غيرَ مَصطَبَتي

سوفَ أترُكُها مِثلَما هِيَ كانَت قَديمة

كما وسَّخَتها العصافيرُ

والنَّسنَسات التي يتركُ العِشقُ والسُّكرُ

والصيفُ قَبلَ نهايتِه

والقوارِبُ بيضاءُ في آخرِ النهرِ

في مَسحَةً مِن ضبابِ رَحيمة

وأغفو عليها

وزِرَّانِ قَد قُطعا مِن قميصي

ليَخرُجَ قلبي متى ما أرادَ إلى دِجلةٍ

يَتَبرَّدُ ثُمَّ يَعودُ

يُمارِسُ نَفسَ الهوى الخطيئةِ

بل والجَريمة

وأغسِلُ عَنّي

الذي زَوَّرَ المُلحَقونَ بِكلِّ الدوائرِ

إذ وجَدوا القلبَ دائِرتي وَحدَهُ

وبهِ أتحَدّى ومِنهُ العَزيمة

وأقرأُ ثانِيةً بالأصابِعِ خِصراً تَعَشَّقتُهُ

والقراءَةُ تأتي وإن كَثُرَ الكَسرُ والتأتآت سَليمة.


في طريق الليل

يقول مظفر النواب:[٤]

ضاع الحادث الثاني وضاعت زهرة الصبار

لا تسل عني لماذا جنتي في النار

جنتي في النار

فالهوى أسرار

والذي بغضي على جمر الغضا أسرار

يا الذي تطفي الهوى بالصبر لا باللّه

كيف النار تطفي النار؟

يا غريب الدار

إنها أقدار

كل ما في الكون مقدار وأيام له

إلا الهوى

ما يومه يوم... ولا مقداره مقدار

لم نجد فيما قطار العمر

يدنو من بقايا الدرب من ضوء على شيء

وقد ضج الأسى أسراب

والهوى أسراب

كنت تدعونا وأسرعنا

وجدنا هذه الدنيا محطات بلا ركاب

ثم سافرنا على أيامنا أغراب

لم يودعنا بها إلا الصدى

أو نخلة تبكي على الأحباب

يا غريبا يطرق الأبواب

والهوى أبواب

نحن من باب الشجي

ذي الزخرف الرمزي والألغاز والمغزى

وما غنى على أزمانه زرياب

كلنا قد تاب يوم

ثم ألفى نفسه

قد تاب عما تاب

كل ما في الكون أصحاب وأيام له إلا الهوى

ما يومه يوم....

ولا أصحابه أصحاب

نخلة في الزاب

كان يأتي العمر يقضي صبوة فيها

ويصغي للأقاصيص التي من آخر الدنيا

هنا يفضي بها الأعراب

هب عصف الريح واه يوماه يوم

وانتهى كل الذي قد كان من دنيا

ومن عمر ومن أحباب

هاهنا ينهال في صمت رماد الموت

يخفي ملعب الأتراب

كم طرقنا بابك السري في وجد وخوف

لم تجبنا

وابتعدنا فرسخا هجرا

فألفيناك سكران جوابا

فلم نغفر ولم تغفر كلانا مدع كذاب

كل غي تاب

إنما غي وغي فيك قد غابا

وراء النرجس المكتوب للغياب

قد شغلنا ليلة بالكأس

والأخرى بأخت الكأس

والكاسات إن صح الذي يسقيك إياها

لها أنساب

يا غريبا بابه غرب الحمى

مفتوح للربح والأشباح والأعشاب

قم بنا نفخ الخزامى طاب

ننتمي للسر

لا تسل لماذا ألف مفتاح لهذي الباب

لا تسل

من عادة أن تكثر الأقوال

في من ذاق خمر الخمر في المحراب

لم يقع في الشك

إلا أنه من لسعة الأوساخ

تنمو خمر الأعناب

لم يقل فيها جناسا أو طباقا إنما إطلاق

نبه العشاق

مدفن أودى بلا هجر ولا وصل بباب الطاقة

مرهق من خرقة الدنيا على أكتافه

لم تستر الأشجان والأشواق والإشراق

لم يكن أغفى

وحبات الندى سالت على إغفائه شوطاً

ودب الفجر في أوصاله رقراق

آه مما فزمن إغفاءة لم تلمس الأحداق

أي طير لا يرى إلا بما يجاب عن ترديده البني

سعف النخل والأعذاق

موغل في السر مندس بنار الماء في الأعماق

يا طائر يحكي لماء أزرق بالوجد في الأعماق

ما أبعد الأعماق

ما أبعد الأعماق

لم يطق يوما ولم يأبه بمن قد فاق

مشفق مشتاق

كله إطراق

أثملت الخمر صحوا

فانبرى يبكي

وأطفال الزمان الغر ضجوا

حوله سخرية في عالم الأسواق

قل لأهل الحي

هل في الدور من عشق لهذا المبتلى ترياق

بأمة في العشق تكفي

نقطة تكفي

فلا تكثر عليك الحبر والأوراق

كل من في الكون تنقيط له إلا الهوى

فاحذر بالتنقيط (نهوي)

واسأل العشاق

هناك كأس لم يذقها شارب في هذه الدنيا

موشاة بحبات الندى سلطانها سلطان

إنها جسر الدجى للمعبر السري فلتعبر

ولا تنصت لمن أعيادها الإدراك والإدمان

لم يكن إيوان كسرى مثلما إيوانها إيوان

إن كأس اللّه هذي مسكها ربان

هذا درب وقد يفضي إلى بوابة البستان

إنما انفض الندامى والمغتني

فاتئد في وحشتي

يا آخر الخلان”


وللاطلاع على قصائد أخرى جميلة لشعراء آخرين: قصائد عبد القادر الجيلاني، قصائد حافظ إبراهيم.

المراجع

  1. مظفر النواب، مظفر النواب الأعمال الشعرية الكاملة، صفحة 5-10. بتصرّف.
  2. مظفر النواب، مظفر النواب الأعمال الشعرية الكاملة، صفحة 7-9.
  3. مظفر النواب، مظفر النواب الأعمال الشعرية كاملة، صفحة 55-59.
  4. مظفر النواب، مظفر النواب الأعمال الشعرية الكاملة، صفحة 60-65.