الطّبيعة والشِّعر في العَصرِ الجاهليّ

كَانَ الشّاعرُ الجاهليّ يُؤمن بقوى خفيّة كثيرة ببعضِ النّباتاتِ، والجماداتِ، والحَيوانات، وأيقَنَ بأنّ قُدرتها تفوقُ قدرةَ النّاس، فآمَن بأنّها سببٌ في كلِّ حركةٍ أو ظاهِرة، فَحاولَ التقرّب مِنها واسترضاءها بشتّى الوسائل والطّرق، واستمالتها إليه بما يُقدّمهُ لها من الذّبائح والقرابين.[١] وكانَ للطبيعةِ أثرٌ كبيرٌ على الشُّعراء الجاهليين، كَما أنّها كانت الأقرب إلى نفوسِهم وعواطفهم، ووجدانهم، فتغنَّوا بِها، ووظّفوها في أشعارهم، فوَصفوا الطّبيعة الحيّة، والطبيعة الجامدة، كَما أنَّهُم اعتنوا بوصف كلّ صغيرةٍ، وكبيرةٍ من مشاهدها، ولم يَتركوا شيئًا إلّا وظّفوه في أشعارِهم، ومِن هُنا أخذ شعر الطّبيعةِ مكانًا بارِزًا في الشِّعرِ الجاهليّ والقصيدة العربيّة.[٢]


كيفية اهتمام الشعراء الجّاهليين بطبيعتهم

أولِع الجّاهليون بالطّبيعة، واستقرّت في أشعارهم كملمحٍ أساسيّ وخاصّة أنَّ مُعظمهم كانوا كثيري التّرحالِ، والتّنقل، فيشهدون مظاهر الطّبيعة في ترحالهم، مما أثّر في أشعارهم، وظَهر تأثّرهم بِها في عِدّة مظاهرٍ منها:[٣]

  • كانت الطّبيعة لَها مظاهرها ودلالاتها ورموزها، وَرُبّما تعودُ إلى الدّيانةِ الوَثنيَّة، إذ كانت العبادة تتكون من ثالوثٍ سماويّ: القمر، والشّمس، والزّهرة، وكانت قد تجلّت هذه العبادة في ثلاثةِ مستويات، الأول عالم النجوم، والثّاني رمزيٌّ يتمثّل في الكائناتِ والنّباتات، والثّالث يرمزُ للصّيد.

فَنجِدُ عُبيد بن الأبرص يُشبّه الظعن بالنّخل الموّسقة فقال: كأنَّ أضعانهنّ نخل موسقة سود ذوائبها بالحمل مكمومة

  • استلهم شُعراء العَرب شعرهم من البيئةِ الجّاهليّة، تحديدًا من المياه، والأنهار، والأمطار، والمُحيطات، والبحار، والجبال، والحيوانات، والنّجوم، فذكَروها في مُعظمِ أشعارهم وقصائدهم، كما أنّهم افتتنوا بالطّبيعة الحيّة، والجّامدة، فصوَّروا حياتهم وما فيها، كَما أنَّهم صوّروا مظاهرها الواسعة، والمُتنوّعة.
  • أفادَ الشُّعراء الجّاهليون من طبيعتهم، فظَهَرَ ذلكَ في معانيهم وصورهم، وإبداعهم وفنونهم، مع التّنويع في الأخذ، والافتتان في العرض، كَما أنَّ تصويرهم لمظاهر الحياة، والطبيعة، وعنايتهم بِها، ظَهَر في كلّ صغيرةٍ وكبيرة؛ إذ وصفوا جبالها، وكثبانها، وصحاريها، إضافةً إلى حيواناتها وطيورها، كَما أنّهم تأثَروا بأحوالها، فابتهجوا لابتهاجِها، وحزنوا لحزنها.
  • عكَس التّصوير لدى الجّاهليين قساوة حياتهم، وقساوة البادية، إلّا أنّ هذه القساوة لم تنل من أفراحِهم، بل كانت عامِلًا مُشجِّعًا، تُشجّعهم على نظمِ الشِّعر، كَما أنّ آثارها ظهرت في ألفاظهم، والّتي امتازت بالخشونة الجّافة الغليظة.
  • بعضُ الجّاهليين عبَدوا العناصر الطّبيعيّة، كالشّمس، والقمر، والزّهرة، والنّجوم، والحيوانات، والنّباتات، ونجِدُ أنّ هَذِه العناصر جسّدت انعكاساتهم وآرائهم.


السِّمات الفنيّة في شعر الطّبيعة

لِشعر الطّبيعة سِماتٌ وخصائصٌ عامّة ألا وهي: [٤]

  • غلب التّشبيه والاستعارة على الأساليب، فالتّشبيه يُبيّن المَعاني المُتمثّلة بالأوهام في الأشخاص المائلة، وأشباه القائمة، وأما الاستعارة فتبرز التشبيه، ويدل أسلوب الاستعارة على خصب الخيال، وسموه، وسعته، وعُمقه.
  • تَشخيصُ المعاني وتجسيمها، ويتمُّ ذلكَ عَن طريقِ إبرازِها في صورة أشخاصٍ وكائِناتٍ حيّة، ويَصدُر عنها كلّ ما يصدر عن الكائِنات الحيّة من أعمالٍ وحركات.
  • بثُّ الحياة وإنطاق الجماد، لما في ذلك من طرافةٍ، ووقعٍ حسن في النّفوس.
  • الاستِعانَةُ في رسمِ الصُّورة المستوحاة من الطّبيعة، وتلوينها ببعض فنون البَديع المعنوي واللفظيّ، مثل: الطّباق، المقابلة، المُبالغة، وحُسن التّعليل، والجناس.
  • إطلاق العنان للخيال ليرتاد عالم الفكر، ويختار منه المعاني الّتي توحي بالطّرافة.
  • التَّصرُّف في أرقّ فنون القَول، واختيار الألفاظ، تُعتَبر مادةً لتصوير الطّبيعة، وإبداعها في جملٍ، وعباراتٍ تخرج بطبيعتها الصّامتة.


كَما بيّن الدكتور نوري القَيسي في كِتابِه "الطّبيعة في الشِّعر الجّاهليّ" عدة سماتٍ أخرى، وهيَ:[٥]

  • الوَاقعيّة في شعر الطّبيعة: تَناول الشّعر الجاهليّ جوانب كثيرة من حياة العرب الواقعية يَظهرُ فيه الاستقصاء، والشُّمول، والدّقة، والعمق، حيثُ كانت الصّورة الّتي يتطرّقُ إليها الشّاعر الجاهليّ دالّةً على إحساسٍ عَميق ببعض المظاهر الّتي كانت تضطرب في نفسه، إذ كانَ يحرص الشّاعر على أن تكونَ صورته مأخوذة من واقعِه المحسوس.
  • القصصيّة في شعر الطّبيعة: اعتَمد الشُّعراء الجّاهليّون على السّرد القصصي في صور تناولهم للحيوان الّذي يُصوّرونه، وأكثر ما ورد في هذا السّرد هو أحاديثهم عن الصّيد، والمديح، والثّراء.


شعراءٌ جاهليّون نظموا شعرًا في الطّبيعة

أثّرت الطّبيعة على الشُّعراء الجاهليين، فكان لِذلكَ أثرٌ واضِحٌ فيما نظموه من الشِّعرِ والمُعلَّقات، ومن هؤلاء الشّعراء: [٦]

  • زُهير بن سلمى: كانَ شِعره عفيفاً، وله قصائد كانت تسمّى بالحوليات، وله ديوان مملوء بمدح الأشراف من غطفان، ونجِدُ في شِعرِهِ توظيف لعناصر الطّبيعة، كما تميّز أسلوبه في قصائده بذكر الدّيار، ثُمّ ينتقل أحيانًا إلى وصف سرعة فرسه، وتكلَّم أيضًا في أشعاره على النّاقة، وحمار الوحش، وغيرها، كما أنَّهُ تكلَّم عن الطّبيعة، ومظاهرها لتحقيق الجّمال البدوي. إذ قالَ في وصف الطّبيعة:


شياه راتعات بقفرة بمستأسد القريان جو مسايله فتتبع آثار الشياه وليدنا كشؤبوب غيث يحفش الاكم وابله يثرن الحصى في وجهه وهو لاحق سراع تواليه حساب أوائله

  • لبيد بن ربيعة: كانَ لبيد بن ربيعة صادق القول في شعره، حيثُ امتاز شعره بالحكمة العالية، والموعظة الحسنة، اشتُهِرت مُعلّقته بوفرة العناصر الطّبيعية، فصوّرت معلقته حياة البادية في فطرتها وقسوتها؛ إذ وصف الطّلول، والديار الخالية، وذكر الحبيبة، كما وصف سرعة النّاقة الّتي شبهها بالسّحابة الخفيفة، فقال:


فمدافع الريان عري رسمها خلفا كما ضمن الوحي سلامها

  • الأعشى الأكبر: يُعرف الأعشى بصنّاجة الأدب لجودة شعره، ومن أبرز وأشهر شعره هي المعلّقة اللّامية على البحر البسيط، وصفَ فيها الطّبيعة من خلال القفرة العارض، والبرق، كما وصف الناقة، وحياة البدو، فقال:


يضاحك الشمس منها كوكب شرقا مؤزر بعميم النبت مكتهل

  • عبيد بن الأبرص: شاعرٌ جاهليٌّ من فحول الشعراء العرب، أشهر شعره هي البائيّة، والّتي تتحدّثُ عن الوقوف في الدّيار الّتي أوحشت بُعد الحبيبة، كَما وصف النّاقة وشبهها بحمار الوحش، كَما كانَ شعره يُمثِّلُ تجاربه وأحاسيسه، فكان يعطفُ على الحيوانات ويتغنّى بِها، فقال:


فَنَهَضَتْ نَحْوَهُ حَثِيثًا وحَرَّدتْ حَرْدَهُ تَسِيبُ فَدَبَّ مِنْ خَلفِها دَبيبًا والعَيْنُ حِمْلاقُها مَقْلوبُ فأدْرَكَتْهُ فَطَرَّحَتْهُ والصَّيْدُ مِنْ تَحْتِها مَكْروبُ



نَموذج من شعر الطّبيعة الجّاهليّ

قال الشّاعر زهير بن أبي سلمى في قصيدته (أمن أم أوفى دمنة لم تكلم) مادِحًا الحارث بن عوف، وهرم بن سنان، المريين، وظَهر تأثُّره بالطّبيعة واضِحًا بقصيدته:[٧]

أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ

ديارٌ لَها بِالرَقمَتَينِ كَأَنَّها مَراجِعُ وَشمٍ في نَواشِرِ مِعصَمِ

بِها العَينُ وَالآرآمُ يَمشينَ خِلفَةً وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مَجثِمِ

وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً فَلَأياً عَرَفتُ الدارَ بَعدَ التَوَهُّمِ

أَثافِيَّ سُفعاً في مُعَرَّسِ مِرجَلٍ وَنُؤياً كَجِذمِ الحَوضِ لَم يَتَثَلَّمِ

فَلَمّا عَرَفتُ الدارَ قُلتُ لِرَبعِها أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاِسلَمِ

تَبَصَّر خَليلي هَل تَرى مِن ظَعائِنٍ تَحَمَّلنَ بِالعَلياءِ مِن فَوقِ جُرثُمِ

عَلَونَ بِأَنماطٍ عِتاقٍ وَكِلَّةٍ وِرادٍ حَواشيها مُشاكِهَةِ الدَمِ

وَفيهِنَّ مَلهىً لِلصَديقِ وَمَنظَرٌ أَنيقٌ لِعَينِ الناظِرِ المُتَوَسِّمِ

بَكَرنَ بُكوراً وَاِستَحَرنَ بِسُحرَةٍ فَهُنَّ لِوادي الرَسِّ كَاليَدِ لِلفَمِ

جَعَلنَ القَنانَ عَن يَمينٍ وَحَزنَهُ وَمَن بِالقَنانِ مِن مُحِلٍّ وَمُحرِمِ

ظَهَرنَ مِنَ السوبانِ ثُمَّ جَزَعنَهُ عَلى كُلِّ قَينِيٍّ قَشيبٍ مُفَأَّمِ


كَأَنَّ فُتاتَ العِهنِ في كُلِّ مَنزِلٍ نَزَلنَ بِهِ حَبُّ الفَنا لَم يُحَطَّمِ فَلَمّا وَرَدنَ الماءَ زُرقاً جِمامُهُ وَضَعنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ سَعى ساعِيا غَيظِ بنِ مُرَّةَ بَعدَما تَبَزَّلَ ما بَينَ العَشيرَةِ بِالدَمِ فَأَقسَمتُ بِالبَيتِ الَّذي طافَ حَولَهُ رِجالٌ بَنَوهُ مِن قُرَيشٍ وَجُرهُمِ يَميناً لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَمِ فَأَصبَحتُما مِنها عَلى خَيرِ مَوطِنٍ بَعيدَينِ فيها مِن عُقوقٍ وَمَأثَمِ عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ وَغَيرِها وَمَن يَستَبِح كَنزاً مِنَ المَجدِ يَعظُمِ


المراجع

  1. نوري القيسي، الطبيعة في الشعر الجاهلي، صفحة 235. بتصرّف.
  2. العكة مريم، العكة العالية، التخرج.pdf?sequence=1&isAllowed=y الطبيعة في العصر الجاهلي ودلالات عناصرها، صفحة 6. بتصرّف.
  3. العكة مريم، العكة العالية، التخرج.pdf?sequence=1&isAllowed=y الطبيعة في الشعر الجاهليّ ودلالات عناصرها، صفحة 24-28. بتصرّف.
  4. رميسة أغقالي، هديل منصوري، مصححة، الطبيعة في الشعر.pdf الطّبيعة في الشعر الأندلسي: دراسة فنيّة، صفحة 16-17. بتصرّف.
  5. نوري القيسي، الطّبيعة في الشعر الجاهلي، صفحة 308-316. بتصرّف.
  6. العكة مريم، العكة العالية، التخرج.pdf?sequence=1&isAllowed=y الطبيعة في الشعر الجاهلي ودلالات عناصرها، صفحة 51-57. بتصرّف.
  7. علي فاعور، ديوان زهير بن أبي سلمى، صفحة 102-105.