قصيدة لا تعذليه

تعود قصيدة "لا تعذليه" والتي تُعرَف أيضًا باسم العينية، واليتيمة، والفُراقية، وقمر بغداد إلى الشاعر ابن زُريق البغدادي، واسمه علي بن زُريق ويُكنّى بأبي الحسن، وهو شاعر وكاتب من العصر العباسي، عُرِف بفطنته وعلمه وحبّه للأدب، فقد كان عارفًا بفنون الشعر والإنشاء، إلا أنه شاعر مُقلّ اشتهر بقصيدة واحدة، وهي العينية التي نحن بصدد شرحها وتحليلها.[١][٢]


مناسبة قصيدة لا تعذليه

يُذكر في مناسبة قصيدة "لا تعذليه" أنّ ابن زُريق البغدادي ارتحل عن موطنه بغداد متوجهًا إلى الأندلس طلبًا للرزق وسعة العيش، وقد ترك وراءه زوجته تنتظره بحبّ وإخلاص، لكنّه لم يوفّق في رحلته وأُصيب بخيبة الأمل وشعر بالحزن، كما ألمّ به مرض شديد أودى به مغتربًا فقيرًا، فوُجدت تحت وسادته هذه القصيدة التي ضمنها مشاعر الاشتياق والحب، ومعاني السعي إلى طلب الرزق.[١]


تحليل قصيدة لا تعذليه

جاءت قصيدة لا تعذليه على بحر البسيط المناسب لبثّ الانفعالات الوجدانية، وقد تم تقسيمها إلى عدة مقاطع فيما يأتي شرحها وتحليلها:[٣]


شرح المقطع الأول

يفتتح الشاعر قصيدته بغزل ممزوج بالعتاب لمحبوبته، فيطلب منها ألا تلومه على قراره بالسفر والرحيل ولا تحاول إثناءه وتغيير مساره، فقد تظنّ أنها كلما أصرت على إقناعه قد يعدل عن قراره، إلا أنّ ذلك لم يُجدِ نفعًا معه بالرغم من أنها مُحقّة، بل على العكس زاد ذلك من حزنه وألمه وقلقه، فلترفق به ولا تصعب الأمر عليه أكثر، فالحزن الذي في قلبه كبير، ومن أبيات القصيدة التي تمثل ذلك ما يأتي:[٤]


لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ جاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّ بِهِ مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُ فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ



شرح المقطع الثاني

يُخبر الشاعر في هذا المقطع عن نفسه ويستعرض الأسباب التي دفعته للطلب من المحبوبة ألا تلومه، ويقول إنّه تحمل الكثير من خطوب الزمن وحوادثه حتى ضاقت أضلع صدره، وقد زاد البُعد والفراق من شدة ما هو فيه، كما يُشير إلى أنه في حل وترحال دائمين ما يعود من سفر حتى يعزم على غيره، وقد كُتب عليه أن يجوب أرض الله الواسعة بحثًا عن الرزق؛ فيعزّ عليه أن يمدّ يده إلى أحد، ويؤكد على أنّ الأرزاق من عند الله تعالى وزّعها بين الناس بلا استثناء وحاشاه أن يُضيع أحدًا من خلقه، لكنّ الإنسان لا يقنع برزقه، وهذا سبب تعاسته، ومن أبيات القصيدة التي تمثل ذلك ما يأتي:[٤]


قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ إِنَّ الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً وَلَو إِلى السَدّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ رزقَاً وَلا دعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت بَغِيُ أَلا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ



شرح المقطع الثالث

يعود الشاعر ويستذكر محبوبته؛ فهو لا ينساها مهما كانت الظروف، وقد صورها بقمر بغداد وكأنه يطلع من طوق القميص، ومن شدة حزنه على فراقها تمنّى لو يُفارقه صفو الحياة ولا تفارقه هي، كما وصفها بأنها مُخلصة وحزينة هي أيضًا لفراقه وقد انهمرت دموعها يوم الوداع، وأمسكت به شدة تحاول منعه من الرحيل، وهو يُحاول أن يصبر نفسه ويختلق الأعذار، لكن قلبه المُضنى بحبها لا يحتمل أية تبريرات وأعذار؛ فقد كانت مُلكًا بين يديه لكنه فرط به ونعمة لم يشكر الله عليه، فوقع الفراق بينهما، ثم يصف بعد ذلك حاله وحال محبوبته بعد هذا الفراق؛ فلم يعرف كلاهما النوم، وأصبحا يعيشان في قلق وهمّ وحسرة، ومن أبيات القصيدة التي تمثل ذلك ما يأتي:[٤]


أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ لا أَكُذب اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ بِالبينِ عِنهُ وَقلبي لا يُوَسِّعُهُ رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ كَم قائِلٍ لِي ذُقت البَينَ قُلتُ لَهُ الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ أتبَعُهُ إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفِنُها بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ بِمَن إِذا هَجَعَ النُوّامُ بِتُّ لَهُ بِلَوعَةٍ مِنهُ لَيلى لَستُ أَهجَعُهُ لا يَطمِئنُّ لِجَنبي مَضجَعُ وَكَذا لا يَطمَئِنُّ لَهُ مُذ بِنتُ مَضجَعُهُ ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي بِهِ وَلا أَن بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ عَسراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ



شرح المقطع الرابع

يستذكر الشاعر هنا المكان الذي كان يجمعه بمحبوبته وما فيه من ذكريات طيبة وأيام جميلة عاشاها معًا، لكن انمحت آثاره وأصبح خربًا بعد الفراق الذي حلّ بهما، وبالرغم من ذلك سيظل كل منهما وفيًا للآخر ويتذكره، ثم يُقسم الشاعر على أنه سيبقى صابرًا على فراق محبوبته؛ فالصبر يعقبه الفَرَج ولديه أمل باللقاء من جديد، لكن يبقى قضاء الله وأمره هو النافذ؛ فقد تصعد روح أحدهما إلى خالقها قبل حلول هذا اللقاء، ومن أبيات القصيدة التي تمثل ذلك ما يأتي:[٤]


بالله يا منزل القصف الذي درست آثاره وعفت مذ غبت أربعه هل الزمان معيد فيك لذتنا أم الليالي التي مرت وترجعه فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ كَما لَهُ عَهدُ صِداقٍ لا أُضَيِّعُهُ وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ لَأَصبِرَنَّ لِدهرٍ لا يُمَتِّعُنِي بِهِ وَلا بِيَ فِي حالٍ يُمَتِّعُهُ عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ عَلّ اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ وَإِن تنل أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ



السمات الفنية في قصيدة لا تعذليه

تتسم قصيدة لا تعذليه بمجموعة من الخصائص والسمات الفنية، منها ما يأتي ذكره:[٣][٥]

  • تخلو هذه القصيدة من الكلمات الصعبة والألفاظ الغريبة.
  • تحمل الكثير من العواطف الصادقة والجياشة.
  • البساطة والانسجام بين وحدات القصيدة.
  • استخدام التشبيه والمجاز والاستعارة بطريقة فنّية مُحكمة.
  • استخدام أسلوب القصة والحكاية.
  • توظيف العديد من أساليب التوكيد.

المراجع

  1. ^ أ ب عبد الله عزايزة، تركيز مادة الأدب، صفحة 28. بتصرّف.
  2. مي أحمد طاهر، التحليل البلاغي والنقدي لقصيدة ابن زريق البغدادي، صفحة 4. بتصرّف.
  3. ^ أ ب ظاهر محسن جاسم، عينية ابن زريق البغدادي دراسة تحليلية، صفحة 15. بتصرّف.
  4. ^ أ ب ت ث مي أحمد طاهر، التحليل البلاغي والتقدي لقصيدة ابن زريق البغدادي، صفحة 8-16. بتصرّف.
  5. علي عبد الظاهر، فراقية ابن زريق البغدادي على ضوء المنهج النفسي، صفحة 12-15. بتصرّف.