شعر التفعيلة نمطٌ شعريٌّ جديدٌ، ظهرَ في العصرِ الحديثِ، على يدِ رائدة الشِّعرِ الحرِّ "نازكِ الملائكة"، و"بدر شاكر السّيّاب"؛ رغبةً منهما بالتَّخلُّص من قيود النَّظم الشّعريّ، والخروج بالقصيدة العربيّة إلى صورةٍ جديدة تتماشى مع الشّعور العربي والمعاناة. وقد عُرف هذا اللَّونُ من الشّعر، بعدّة أسماءٍ إلى جانب شعر التّفعيلة، كالشّعر الحرّ، والشّعر المرسل [١]. ولعلّ من أبرز ما يميّزه عن الشِّعر التَّقليديِّ الخروج على عروض الشّعر العربيّ، الّذي يعتمد على عددٍ معيّن من التّفعيلات، وقد ظهر في أوائل القرن الحادي عشر، على يد جماعةٍ من العراقيّين، أطلق عليهم اسم البند، ثمّ اتّسع أكثر على يد جماعة أبولو أوّلًا، والشّعر الشّباب ثانيًا.[٢]


نشأة شعر التّفعيلة

إنَّ المتَتبِّعَ لبدايات حركة الشّعر الحُرّ، أو ما يُعرف بشعر التّفعيلة، يجدُ أنَّ هنالك اختلافًا بين كلٍّ من بدر شاكر السَّيّاب والشّاعرة "نازك الملائكة" من حيث أسبقيّة كلٍّ منهما في هذا المجال، حيثُ كتب بدر شاكر السّيّاب، في مقدّمة ديوانه (أساطير): "وأوَّل تجربةٍ لي من هذا القبيل كانت في قصيدة (هل كان حبًّا) من ديوان أزهار ذابلة، وقد صادف هذا النّوع من الموسيقى قبولًا عند كثيرٍ من شعرائنا الشّباب، نذكر منهم الشّاعرة المبدعة نازك الملائكة"، وبهذا نجد أنّ بدر شاكر السّيّاب يدّعي أنّه الأسبق في اعتماد الشّعر الحرّ من نازك الملائكة، الّتي بدورها ادّعت هي الأخرى أنّها الأولى في هذا الاعتماد والاكتشاف في آنٍ واحد، حيث كتبت عن سبب اكتشافها للشّعر الحرّ: "وكنتُ كتبتُ تلك القصيدة، أصوّرُ بها مشاعري نحو مصر الشّقيقة، خلال وباء (الكوليرا) الَّذي داهمها، وقد حاولتُ فيها التَّعبير عن واقع أرجل الخيل، الّتي تجرّ عربات الموتى من ضحايا الوباء من ريف مصرَ. وقد ساقتني ضرورة التّعبير إلى اكتشاف الشّعر الحرّ". ممّا يعني أنّنا بين خلافٍ انتصر فيه من الشعراء الشّباب لبدر شاكر السّيّاب في أسبقيّته في هذا المضمار، ومنهم من انتصر لنازك الملائكة.[٣]


دوافع شعر التَّفعيلة

إنّ لنشأة شعر التّفعيلة دوافع اجتماعيّة تتمثّل فيما يجري على المجتمعات من تغييرٍ في أنماط الحياة وتكويناتها الحضاريّة، وعلى الشّاعر أن يَجري في شعره وفق ما يراه من تطويرٍ وتبديل في نمط الحياة، فالشّاعر الحقّ هو الشّاعر الّذي يتأثّر بمجتمعه ويؤثّر فيه، ويواكب التّطوير دائما بشعره، أمّا الدّوافع الأخرى من نشأة شعر التّفعيلة فتتمثّل بالجانب النّفسيّ، فهي انعكاس لما يعانيه الشّعراء من كبتٍ وضيقٍ شديد، بسبب الاستعمار على عالمنا العربيّ؛ ممّا خلق نوعًا جديدًا من الفنّ الشّعريّ، تستعيد فيها الأمّة شعورها ورغبتها بالاستقلال والتّحرّر. كما أنّ هنالك دوافع أخرى لنشأة شعر التّفعيلة، تتمثّل في الميل إلى تأكيد استقلال الفرد بالبعد عن النّمط الشّعريّ التّقليديّ، والعمل على تأكيد إبراز ذاتيّتهم. ومن وجهة نظر الدّكتور محمّد النّويهي، فإنّ الدّافع الحقيقيّ من هذا اللّون الشّعريّ، كما يرى:"الرّغبة في استخدام التّجربة مع الحالة النّفسيّة والعاطفيّة للشّاعر؛ وذلك لكي يتآلف الإيقاع، والنّغم مع المشاعر الذّاتيّة في وحدةٍ موسيقيّة عضويّة واحدة".[٤]


مميّزات شعر التّفعيلة

لشعر التّفعيلة مميّزات عدّة، ولعلّ من أبرز مميّزاته:[٥]

  • أوّلا: تحقيق الوحدة العضويّة المبنيّة على التّناسق العضويّ بين موسيقى اللفظ أو الصّورة، وحركة الحدث أو الانفعال الّذي يتوقّف عليه.
  • ثانيًا: يعتبر شعر التّفعيلة أقرب معانقة لروح العصر الّذي نعيشه وأكثر استيعابًا لمضامينه.
  • ثالثا: المرونة في الموسيقى الشّعريّة.
  • رابعًا: منح الشاعر القدرة على التعبير عن مشاعره بحرّيّةٍ دون التّقيّد بأطوالٍ محدّدة للبيت الشّعريّ.


خصائص شعر التّفعيلة

لشعر التّفعيلة خصائص عدّة يُعرف بها، وتميّزه عن الشّعر التّقليديّ، ولعلّ من أبرز خصائص شعر التّفعيلة، أنّه يعتمد على الوزن، فلو لم يكن موزونًا لما جازت تسميته بالشّعر، ومن ناحيةٍ أخرى نجد أنّ شعر التّفعيلة، يعتمد التّفعيلة كوحدةٍ للوزن الموسيقيّ، دون تقيّد بعدد ثابت من التّفعيلات في الأسطر الشّعريّة للقصيدة الواحدة. ومن خصائصه أيضًا اعتماده على الصّور الفنّيّة المعمّقة للفكرة، فضلًا عن الاعتماد على الرّمزيّة، الّتي يبثّ فيها الشّاعر مشاعره الشّخصيّة وأفكاره السّياسيّة.[٦]


تفعيلات شعر التّفعيلة

تُعرف التّفعيلات على أنّها الوحدة الّتي تتركّب منها الأوزان الشّعريّة، وعددها ثماني تفعيلاتٍ في شعر التّفعيلة، بالاستغناء عن التّفعيلتين (مستفعلن، فاعلاتن) من الشّعر العموديّ، لقلّة استعمالهما. وتتكرّر التّفعيلات في أبيات شعر التّفعيلة (الشّعر الحرّ) من دون تقيد في عددها، فقد يتألّف البيت الواحد من تفعيلةٍ واحدة، أو اثنتين، أو أكثر. وعلى النّاظم أن يلتزم بالتّرتيب في استخدام التّفعيلات دون الالتزام بعددٍ محدّد للتّفعيلات. ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في قصيدة (هل كان حبًّا) للشّاعر بدر شاكر السّيّاب، الّتي نظمها على بحر الرّمل، كالآتي:[٧]

هلْ تسمّينَ الّذي ألقى هيامًا

أم جنونًا بالأماني أم غرامًا

ما يكون الحبّ؟ نوحًا وابتسامًا


حيث اعتمد السّيّاب في الأسطر الشّعريّة الثّلاثة الأولى على ثلاث تفعيلات، ثمّ عمد إلى استخدام أربع تفعيلات في السّطرين الرّابع والخامس، بقوله:


أم خفوق الأضلع الحرّى إذا حان التّلاقي

بين عينينا فأطرقت فرارًا باشتياقي


ثمّ استخدم في السّطر السّادس تفعيلتين، وثلاث تفعيلات في السّطر السّابع، في قوله:


أحسد الضّوء الطّروبا

موشكًا ممّا يلاقي أن يذوبا


التَّجديد في القافية

لقد خرج الشّعر الحرّ عن وحدة القافية الّتي ميّزت الشّعر التّقليديّ، الأمر الّذي كان يجعل الشّعراء مجبورين على صناعتها، غير مبالين بوحدة الفكرة، بحسب وجهة نظر نازك الملائكة، والّتي كانت ترى حسبما عبّرتْ قائلة: "القافية كانت دائمًا هي العائق..الشّاعر يصف الكلمات ويرصّ القوافي دونما حسّ" ولكن هذا لا يعني أبدًا أنّ القافية في الشّعر الحرّ مرفوضة تمامًا، ولا يُحتاج إليها، بل إنّ القافية في الشّعر الحرّ تعطي الشّعر شعريّةً خاصّة، تعبّر عن أعماق الرّوح الحرّة، والنّظرة الإبداعيّة المتحرّرة من كلّ قيد.

يعتبر عدم الالتزام بالقافية أبرز مظهر من مظاهر تحرير الشّعر، وبثّ دلالاتٍ جديدة فيه، أكثر تفاعلًا وحيويّة، ممّا يزيد من مستوى الشّعر.[٨]


التّجديد في موسيقى الشّعر

لم يقتصر التّجديد في الشّعر الحرّ على شكله فقط، بل تعدّاه أيضًا إلى التّجديد في موسيقاه، وذلك بإيجاد تغيير في البحور الشّعريّة، وذلك بلجوء نازك الملائكة إلى تصنيف البحور الشّعريّة إلى الصّنفين: البحور الصّافية والبحور الممزوجة. أمّا البحور الصّافية، فهي الّتي تتكرّر فيها التّفعيلة الواحدة ستّ مرّات، على النّحو الآتي:[٩]

الكامل شطره: (متفاعلن متفاعلن متفاعلن).

الرّمل شطره: (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن).

الهجز شطره: (مفاعيلن مفاعيلن).

الرّجز شطره: (مستفعلن مستفعلن مستفعلن).

المتقارب شطره: (فعولن فعولن فعولن فعولن).

المتدارك شطره: (فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن) أو (فعلن فعلن فعلن فعلن).


والبحور الممزوجة، وهي البحور التي تقوم على اعتماد تفعيلتين متماثلتين تليهما تفعيلة مختلفة في الشّطر الواحد، وتكون في البحرين: السّريع والوافر، على النّحو الآتي:

البحر السّريع شطره: (مستفعلن مستفعلن فاعلن).

البحر الوافر شطره: (مفاعلتن مفاعلتن فعولن).


ومن وجهة نظر الشّاعرة العراقيّة نازك الملائكة، إنّ هذا التّجديد في موسيقى الشّعر لا يُعدّ خروجًا عن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، بل تعديلًا لها، حيث قالت: "وينبغي ألا ننسى أنّ هذا الأسلوب ليس خروجًا عن طريقة الخليل، وإنّما هو تعديل لها، يتطلَّبه تطوّر المعاني والأساليب خلال العصور الّتي تفصلنا عن الخليل".


أسباب نهضة شعر التّفعيلة

هنالك أسباب عديدة ساهمت في نهضة الشّعر العربيّ المعاصر، الّذي عرف بشعر التّفعيلة، ومن بين هذه الأسباب:[١٠]

  • أوّلًا: ظهور الوعي لدى الشّعراء المجدّدين الّذين كانوا يؤمنون بقيمة هذا التّجديد.
  • ثانيًا: الاستناد إلى الثّقافة الأدبيّة الجديدة بالتّأثّر بالأدب الغربيّ، وبمفاهيم النّقد الحديث.
  • ثالثًا: تنوّع المجلّات الأدبيّة، الّتي تُعنى بهذا اللون الجديد من الشّعر وتتبنّاه، إذ اعتمدت على نشر نماذج من شعر التّفعيلة، ومقالات أدبيّة تعريفيّة بهذا اللون الشّعريّ، ومن الأمثلة على هذه المجلّات، والّتي أسهمت في التّأكيد على دور الشّعر الحديث وتثبيت حركة الحداثة، مجلّة (الآداب) الّتي صدرت عام 1954، ومجلّة (شعر) الّتي صدرت عام 1957م، بالإضافة إلى مجلّتي (حوار) و(مواقف)، الّلتين اعتبرتا أقلّ أثرًا من المجلّتين (الآداب) و(شعر).
  • رابعًا: فرض الشّعر الحديث نفسه إلى جانب الشّعر العموديّ، من خلال تنظيم مهرجانات شعريّة في مناسباتٍ متعدّدة، يُلقى فيها هذا اللون من الشّعر.
  • خامسًا: ظهور المطابع، ودور النّشر الّتي ترعى هذا النّوع من الشّعر، ومن بين دور النّشر الّتي كان لها الأثر في نشر هذا اللون من الشّعر (دار الآداب)، و(دار العودة)، و(وزارة الثّقافة والإعلام في بغداد).
  • سادسًا: ظهر العديد من المنظّرين والشّعراء، والّذين شجّعوا بفضل ما وضعوه من كتب ألّفوها، في جعل هذا اللون الشّعري متقبّلًا، ومنهم: إحسان عبّاس، نازك الملائكة، وجبرا خليل جبرا، أدونيس، وغيرهم.


نموذج للشّعر الحرّ

اشتهر محمود درويش بكتابة الشّعر الحرّ، ومن الأمثلة على قصائده الّتي كتبت على هذا اللون الشّعريّ، قصيدة (أنا من هناك)، وهذا نصّها:[١١]

أَنَا مِنْ هُنَاكَ. وَلِي ذِكْريَاتٌ. وُلِدْتُ كَمَا تُولَدُ النَّاسُ. لِي وَالِدَهْ

وبيتٌ كثيرُ النَّوافِذِ. لِي إِخْوَةٌ. أَصْدِقَاءُ. وَسِجْنٌ بِنَافِذَةٍ بَارِدَهْ.

وَلِي مَوْجَةٌ خَطَفتْهَا النَّوارِسُ. لِي مَشْهَدِي الخَاصُّ. لِي عُشْبَةٌ زَائِدَهْ

وَلِي قَمَرٌ فِي أقَاصِي الكَلاَم، وَرِزْقُ الطُّيُورِ، وَزَيْتُونَةٌ خَالِدَهْ

مَرَرْتُ عَلَى الأَرْضِ قَبْلَ مُرُور السُّيُوفِ عَلَى جَسَدٍ حَوَّلُوه إِلَى مَائِدَهْ.

أَنَا مِنْ هُنَاكَ. أُعِيدُ السَّمَاءَ إِلَى أُمِّهَا حِينَ تَبْكي السَّمَاءُ عَلَى أمَّهَا،

وَأَبْكِيِ لِتَعْرفَنِي غَيمَةٌ عَائِدَهْ.

تَعَلّمْتُ كُلِّ كَلامٍ يَلِيقُ بمَحكَمَةِ الدِّم كَيْ أُكْسِرَ القَاعِدهْ.

تَعَلّمتُ كُلِّ الكَلاَمِ ، وَفَكَّكْتُهُ كَيْ أُرَكِّبَ مُفْرَدَةً وَاحِدَهْ

هِيَ: الوَطَنُ

المراجع

  1. عبد السلام صحراوي، الشّعر الحرّ وبناء القصيدة عند نازك الملائكة وبدر شاكر السّيّاب، صفحة 21. بتصرّف.
  2. مصطفى جمال الدّين، الإيقاع في الشّعر العربيّ من البيت إلى التّفعيلة، صفحة 164. بتصرّف.
  3. مصطفى جمال الدِّين، الإيقاع في الشّعر العربيّ من البيت إلى التّفعيلة، صفحة 155-156. بتصرّف.
  4. الأستاذ الدّكتور محمّد بن زاوي، الثانية ليسانس.pdf النّصّ الأدبيّ المعاصر، صفحة 7-8. بتصرّف.
  5. الأستاذ الدّكتور محمّد بن زاوي، الثانية ليسانس.pdf النّصّ الأدبيّ المعاصر، صفحة 9. بتصرّف.
  6. إيهاب عطا، مدخل إلى الأدب العربيّ الحديث، مدرسة شعر التّفعيلة، صفحة 5. بتصرّف.
  7. مصطفى عليوي كاظم، جينيوم الشّعر العموديّ والحرّ، صفحة 130. بتصرّف.
  8. عبد السّلام الصّحراويّ، الشّعر الحرّ وبناء القصيدة عند نازك الملائكة وبدر شاكر السّيّاب، صفحة 38. بتصرّف.
  9. عبد السّلام صحراوي، الشّعر الحرّ وبناء القصيدة عند نازك الملائكة وبدر شاكر السّيّاب، صفحة 35-36. بتصرّف.
  10. يوسفي سوهيلة ، الرّمز ودلالته في القصيدة العربيّة المعاصرة، صفحة 4. بتصرّف.
  11. محمود درويش، الأعمال الكاملة، صفحة 859. بتصرّف.