أدبُ المهجرِ

بعدَ أنْ هاجرَ أكثرُ العربِ إلى أمريكا، بغيةَ العملِ أو التّجارة، خاصَّةً ممَّن هم من لبنانَ، وسوريا، نتيجةَ ظروفٍ اقتصاديَّةٍ وسياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ صعبةٍ، شهدتها بلادهم في تلك الأوقات، وكان من بين هؤلاءِ العربِ المهاجرينَ شعراءُ وأدباءُ، ساهمُوا بفضلِ ما لديهم من مواهبَ في إثراء النّتاج الأدبيّ، حتّى قدّموا للغتهم العربيّة أدبًا ثمينًا مميَّزًا، سرعانَ ما كان له الأثرُ البالغُ في الأوساطِ الأدبيَّةِ، وأسهمَ في النَّهضةِ الأدبيَّةِ، كما أنشأ فصلًا جديدًا، ومهمًّا في تاريخ الأدب العربيّ. ومن الجديرِ بالذّكرِ أنَّ هؤلاءِ الشّعراء والأدباء، الّذينَ قدّموا أدبًا جديدًا، يحملُ طابعًا مميّزًا عمّا كانَ في الشَّرق عُرفوا باسمِ شعراء المهجر.[١]


أبرز شعراءُ المهجرِ

أسّسَ شعراء المهجر رابطتين أدبيّتين، وهما:

  • الرّابطة القلميّة في المهجر الشّماليّ: وكان رئيسُها "جبران خليل جبران". أمّا من شعرائها: ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي، ونسيب عريضة.
  • العصبة الأندلسيَّة في المهجر الجنوبيّ: الّتي كان رئيسها "رشيد خوري"، وشعراؤها: فوزي المعلوف، وإلياس فرحات.

والمتأمّلِ في شعراء المهجر، يجدُ أنّ لهم صفات ميّزتهم، وجعلتهم يتشابهون في صدق عاطفتهم، وسعيهم إلى التّجديد في الأدب، وأسلوبهم البسيط الصّادق، والرّمزيّة في أشعارهم على النّحو الآتي:


جبران خليل جبران

وهو شاعر، وكاتب، وفيلسوف، ومن أدباء وشعراء المهجر، ولد في بشرّي في لبنان، لم يذق طعم الوفاق العائليّ، فأبوه كان عاملًا مدمنًا على السّكر، وقاسيًا في معاملته، أمّا أمه فكانت حازمة ذكيّة رحلت بأبنائها إلى أمريكا، وكان جبران في الحادية عشرة من عمره. شهد جبران وفاة أمّه وأخته وأخيه، ممّا أثّر في شعره. ومن أشهر مؤلّفاته:[٢]

  • دمعة وابتسامة.
  • الأجنحة المتكسّرة.
  • العواصف.
  • النّبيّ.
  • رمل وزبد.
  • يسوع بن الإنسان.

ويُعتبرُ من أبرز شعراء وكتّاب الرّابطة القلميّة، وقد تميّز هذا الشّاعر بشدّة طموحه، وشغفه وتأمُّله بالجمال، وقدْ عُرف بممازجته بين تراسل الحواس، من حسٍّ لمسيٍّ، وشمّيّ/ وذوقيّ، وبصريّ، وهذا يظهر في قوله:[٢]

هلْ تحمّمْتَ بعطـــــرٍ وتنــشَّقْــتَ بنـــورْ

وشربْت الخمرَ فجرًا في كؤوسٍ من أثير


إنّ معاناته العميقة، وما كابده من عذاباتٍ أدَّت به إلى أن يصلَ إلى روح الحياة، ويأتي بفلسفةٍ استوحاها من عالمه الخاصّ، ومن تجاربه ومعاناته، وقد ظهر هذا في قصيدته الّتي عُرفت باسم (المواكب) أراد فيها أن يؤكّد أنّ المفاهيم السّائدة من خيرٍ، وشرٍّ، وقوّةٍ، وضعف، هي مفاهيم زائفة، فثار بقصيدته هذه على القيم المتحجّرة، ليصل إلى الغاب، حيث قال:[٣]

لمْ أجدْ في الغابِ فرقًا بيـــنَ روحٍ وجسدْ


فالهوا مــــاءٌ تهــــادى والنّـــدى ماءٌ ركدْ



إيليا أبو ماضي

هو شاعر عربيٌّ لبنانيٌّ، يعدُّ من أهمِّ شعراء المهجر، في أوائل القرن العشرين، وأحد مؤسّسي الرّابطة القلميّة، هبط إلى مصر وهو في عمر الحادية عشرة، وقد لاقى التّعب والظّلم أثناء إقامته في مصر، وقبل انتقاله إلى أمريكا، بعد أن أنفق من عمره تسعة عشر عامًا، وقد جاء في شعره قوله:[٤]

نأى عن أرض مصر حذارِ ضيمٍ ففرَّ من العذابِ إلى العذابِ


وقد اجتمع إيليا أبو ماضي بجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، ونسيب عريضة، ورشيد أيّوب، وغيرهم ليؤلّفوا الرّابطة القلميّة، في (نيويورك). ويُعدّ شعره مصدرًا من مصادر ثقافته الّتي وصلت إلينا، فمن معانيه نتلمّس ثقافته الفكريّة، ومن مبانيه نتلمّسُ ثقافته اللّغويّة.


نسيب عريضة

شاعرٌ وقاصٌّ سوريٌّ، وُلد في حمص، وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1905م. وهو أحد مؤسّسي الرّابطة القلمية في نيويورك عام 1920م، ويتميز شعره بالرّقة والحنين للوطن، له ديوان باسم (الأرواح الحائرة) يعكسُ صورةً كاملةً لحياته المضطربة. أصابه المرض عام 1942م، وأصبحت حياته كئيبةً، فظلّ ينتظر وفاته ليرتاح، ويصف في هذه الأبيات ما الّذي جعله يشعر بهذا اليأس من الحياة، حيث قال:[٥]

شربْتُ كأسي أمام نفسي وقلْتُ: يا نفسُ، ما المرام؟

حياةُ شكٍّ وموْتُ شكٍّ فلْنغمرَ الشَّــكَّ بالمـــــرام

آمـالنا شعشـعتْ فغابت كالآل أبقى لـنـــا الأوام


ويزداد الشاعر إحساسا باليأس والمرارة، ويظهر هذا في مقطوعته (أنا في الحضيض)، حينما قال:[٥]

أنَا في الحضيض

وأنا مريضٌ

أفلا يدٌ تمتدُّ نحوي بالدّوا

وتبثُّ في جسمي ملامسها القوى

أفلا فؤادٌ

بين العباد

يدري بأوجاعي، فيعطف مُنعِما

ويصبُّ فوقَ جراح قلبي البلسما


إلياس فرحات

شاعرٌ لبنانيٌّ مهجريٌّ، وُلد في قرية كفر شيما، ترك المدرسة في العاشرة من عمره، وتوجّه للأعمال اليدويّة، وفي عام 1910 هاجر إلى البرازيل. ويُعتبر إلياس من الشّخصيّات العصاميّة، وقد تدرّج في العلم وحيدًا دون الاعتماد على غيره، حتّى اكتسب اللغة، وتدرّج في نظم الشّعر، معتمدًا على ذائقته الشّعريّة بالفطرة، وأذنه الموسيقيّة. ومن آثاره الأدبيّة:

  • ديوان فرحات.
  • الرّباعيّات.
  • أحلام الرّاعي.
  • عودة الغائب.
  • فواكه رجعيّة.
  • قال الرّاوي.

امتاز شعره السّياسيّ بالشّدّة، والعنف، والخطابة، واللّوم، وقد تأثّر أسلوبه بـأسلوب الشّعراء القدامى، وعرف بذاكرته القويّة، وهكذا استطاع أن يتجنّب الأخطاء اللغويّة والنّحويّة، بفضل ما حفظ من آلاف الأبيات الشّعريّة، والّتي كان لها أثر في فهم القواعد بالسّليقة.[٦]


نشأة الأدب المهجريّ

نستطيعُ القولَ إنَّ الفتنَ والظّروف السّياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة الصّعبة، اجتمعتْ معًا لتشكّل نشأة أدب المهجر، حيثُ كان للحكم العثمانيّ على سوريا ولبنان، في القرن التّاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أكبر سبب في إثارة الفتن بين السّكّان، والّتي اندلعت منذ سنة 1841، حتّى بلغت ذروتها في فتنة السّتين، والّتي اشتركت فيها الدّولة العليا، والدّول الأوروبّيّة. وعلى الرّغم من أنّ هذا النّظام منح لبنان شيئًا من الاستقرار في وقتها، إلا أنّه أتاح للأجانب أن يقضوا على اقتصاد البلاد، ممّا أجبر العديد من أبناء البلاد للسفر خارج البلاد، وترك بلادهم، والذهاب إلى المهاجر في مصر، وأستراليا، والأمريكيّتين فرارًا من واقعٍ أليمٍ جثم على صدر الأحرار، والتماسًا لواقعٍ جديدٍ ينعمون فيه بالحرّيّة والرّاحة، ويحقّقون فيه أحلامهم الّتي وئدت في ظلّ الطّغيان السّياسيّ.[٧]


أبرز موضوعات شعرُ المهجر

كانَ لاجتماع الظّروف السّياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، سببًا في تشكّل موضوعات المهجريّين الشّعريّة، والّتي كانت تدورُ حول التّكوين النّفسيّ، بظهور النّزعة الإنسانيّة في أشعارهم، بالإضافة إلى الحنين إلى الوطن، وبثّ الشّكوى، والألم بسبب الغربة، فضلًا عن بروز الحثّ على التّفاؤل والأمل في أشعارهم، والاتّجاه إلى الطّبيعة الّتي دفعت المهجريّين إلى التّأمّل. ومن الموضوعات التي ظهرت في أدب المهجريّين الدّعوة للقوميّة العربيّة، وكان أسلوبهم متأثّرًا بشكلٍ كبيرٍ بفلسفة الشّرق، وفكر المتصوّفين، والفلاسفة المسلمين.[٨]


الخصائص الفنّيّة للشّعر المهجريّ

تميّز أدبُ المهجر بعمق عواطفه، وسعة خياله، واستحداث أساليبه، ومن هذه الأساليب والخصائص الّتي عرف بها:[٩]

  • أوّلًا: ظهور بعض النّزعات الواقعيّة، والشّطحات الرّمزيّة.
  • ثانيًا: غلبة الرّوح الرّومانتكيّة على أشعاره، والبعد عن المذهب الكلاسيكي؛ إذ إنّ أدب المهجر كان ردّة فعلٍ قويّة على الكلاسيكيّة الّتي قيّدت الأدب العربيّ، وكادت تخنقه، خاصّة أنّ الواقعيّة كانت لا تلائم المدرسة الكلاسيكيّة، بمقطوعاتها الشّعريّة، والقطع الشّعريّة المنثورة.
  • ثالثًا: عدم اعتماد أدب المهجر على الأدب القصصيّ لعدم نضجه، وحاجته إلى التّفرّغ، الأمر الّذي لم يكن موجودًا عند أدباء المهجر، كما أنّ الموضوعات الّتي كان أدباء المهجر يعالجونها كانت بعيدةً عن الأدب القصصيّ.
  • رابعًا: الإذعان للعاطفة، والاستعانة بالخيال، والجنوح إلى الزّخرفة، والّتي تلائم الطّبع العربيّ، والذّوق الشّرقيّ.
  • خامسًا: شيوع الحزن، والتّشاؤم، والحنين إلى الوطن، والشّكوى من الغربة في أغراض هذا الأدب.
  • سادسًا: لغة الأدب بسيطةً صادقة، خاصّةً أنّ أدباء المهجر كانوا يعبّرون عن عواطفهم، ومشاعره الجيّاشة بتلقائيّةٍ، حيثُ كانوا يتّخذون من كتابة الشّعر، والنّثر هوايةً لهم دون التّقيّد بدراسة قواعد اللّغة دراسةً عميقةً منظّمة، ودون توسّعٍُ.
  • سابعًا: ألفاظ الأدب المهجريّ، وتراكيبه دقيقة، وقادرة على نقل الإحساس، وإثارته.
  • ثامنًا: استعمال الألفاظ المألوفة، والّتي تحدّدتْ معانيها بكثرة الاستعمال، تدفع مشاعرنا إلى التّداعي، وأفكارنا إلى الاسترسال.


نموذج لشعر المهجر

نظم الشّاعر المهجريّ "فوزي المعلوف" قصائد عديدة، يظهر فيها جمال حسّه المرهف، ومنها قصيدة "حنين المهاجر"، والّتي تتألف من أربعة عشر بيتًا، يقول فيها:[١٠]

وَأطُولَ أَشْوَاقِي إِلَى الوَادِي! وَادِي الهَوَى وَالحُسْنِ وَالشِّعرِ

مَلْهَى صِبَايَ وَمَهدِ مِيلَادِي وَعَسَى يَكُونُ بحِضْنِهِ قَبْرِي


والكَرْمُ يَكْسُو سنَى الشَّفَقِ ألوانَهُ وَيَشِعُّ بِالعِنبِ

فَتَرى بِهِ فِي صُفْرَةِ الورقِ عَسَلًا بِلُؤْلُؤَةٍ عَلَى ذَهَبِ


وَالمَاءُ تَشْعُرُ حِينَ تَشْرَبُهُ بِقُوًى تَدِبُّ بِهِ إِلَى جَسَدِكْ

لَيْسَ النَّدَى، وَالفَجْرُ يَسْكبُهُ لِلزَّهرِ أَعْذَبَ مِنْهُ فِي كَبِدِكْ


وَإِلَى الرُّبَى، وَاللَّيْلُ كَلَّلَها بِسُكُونِهِ المَمْلُوءِ بِالسحْرِ

وَمشى الهَوَى فِيهَا فظلَّلَها بِمَوَاكِبِ الأحلامِ والشعرِ


وَالنَّهْرُ مَا أَحْلَاهُ يَنْتَقِلُ فِي حِضْنِ حصباءٍ مِنَ الدُّرَرِ!

تَهْوي عَلَيْهِ الشُّهْبُ تَغْتَسِلُ فِي الليلِ، وَالأنوارُ فِي السحَرِ


وَاهًا عَلَى المَاضِي وَأَيَّامِهِ مَا كَانَ أَسْعَدَهَا وَأَقْصَرَهَا!

فَرَّتْ فِرَارَ لَذِيذِ أَحْلَامِهْ لَمْ تُبْقِ لِي إِلَّا تَذَكُّرَهَا


أَيَّامُ أُنْسٍ مَا أُحَيْلَاهَا وَأَحَبَّ صُورَتهَا إِلَى فِكْرِي!

قَلْبِي يَذُوبُ جَوًى لِذِكْرَاهَا فِي أَضْلُعِي، وَمَدَامِعِي تَجْرِي

المراجع

  1. نجدت فتحي صفوة، ايليا أبو ماضي والحركة الأدبيّة في المهجر، صفحة 40. بتصرّف.
  2. ^ أ ب جبران خليل جبران، ديوان جبران خليل جبران، صفحة 2. بتصرّف.
  3. محمد الأمین شیـخة، التشكیل الأسلوبي في الشعر المھجري الحدیث، صفحة 25-26. بتصرّف.
  4. إيليا أبو ماضي، ديوان إيليا أبوماضي، صفحة 20-23. بتصرّف.
  5. ^ أ ب محمد الأمین شیـخة، التشكیل الأسلوبي في الشعر المھجري الحدیث، صفحة 35-36. بتصرّف.
  6. دكتور حسن مجيدي، أنسية سكاكي، التحليل والنقد لشخصية الياس فرحات، صفحة 110-112. بتصرّف.
  7. الدّكتور صابر عبد الدّايم، أدب المهجر دراسة تأصيلية تحليلية لأبعاد التجرية التأملية في الأدب المهجري، صفحة 13. بتصرّف.
  8. الدّكتور صابر عبد الدّايم، أدب المهجر دراسة تأصيلية تحليلية لأبعاد التجرية التأملية في الأدب المهجري، صفحة 67-89. بتصرّف.
  9. نجدة فتحي صفوة، إيليا أبو ماضي و الحركة الأدبية في المهجر، صفحة 43-48. بتصرّف.
  10. فوزي المعلوف، ديوان فوزي المعلوف، صفحة 13.